كلما اقترب رجوع المرضى لغزة

12 مايو 2021
من اقتحامات الاحتلال للمسجد الأقصى أول أمس (Getty)
+ الخط -

الاثنين 26 أكتوبر

منذ أفتح عيني، آخذ الحبّة. ثم لا أغتسل بالماء، كما هي عادتي يومياً.

أتناول القليل من الفطور، وأتدفّأ بالمزيد من الملابس.

يذهب أخي للمستشفى، وأمكث أنا في غرفتي لأتأمّل وأكتب هذه اليوميات.


الثلاثاء 27 

أمس ليلاً، انتشر "حرس الحدود" وقوّات شرطة الاحتلال قبالة الفندق. جماعتنا خافوا، واحترسوا، فحرصوا على الكلام بنبرة واطئة، حتّى وهم في غرفهم، لا في البلكونة. وبالذّاتِ الرجالُ منهم. وقد علمت اليوم، من موظف الاستقبال، أن اليهود كانوا بصدد دفن أحد حاخاماتهم الكبار، في المقبرة القريبة من الحرَم.

موظف الاستقبال علّق: اليهود الإيرانيون هم أكثر اليهود عنايةً بموتاهم. وهم هنا (يشير للمقبرة) يدفعون في القبر من عشرين إلى مئة ألف دولار (حسب الموقع).

- "ليش كل هذا؟".

- "لديهم اعتقاد ديني بأنّ من يدفنون في هذه المنطقة (يسمونها: "الحوض المقدّس"، وتشمل منطقة الحرم وجبل الزيتون وسلوان وكلّ النواحي القريبة من الحرَم - "هيكلهم") همّ أول مَن سيُبعثون يوم الدينونة"!


الأربعاء 28

أزور دير الصعود التابع للأرثوذكس الروس. دير واسع وجميل في قلب جبل الزيتون. به راهب روسي واحد، وحوالي خمسين راهبة من جنسيات مختلفة. تحيطه من جميع النواحي بيوت الأهالي. وبينهم وبين بعضهم ألفةٌ وعِشرة وعلاقات طيّبة. تبلغ مساحة الدير حوالي خمسة وثمانين دونماً. معظمها مزروع بشجر الزيتون والكرمة، وليس المدخل فقط.

في الداخل، يوجد ثلاثة أو أربعة قبور لقدّيسين، ورأيت أيضاً طاووساً كبيراً يرعى بأمان تحت الشجر.

يا إلهي، هذا جمال كثيرٌ على أمثالنا نحن الفانين

تأخذني الراهبة الفلسطينية خوستينا إلى كنيسة صغيرة قديمة بُنيت فوق قبر يوحنا المعمدان الأول ("الأوّل" صفةٌ على القبر لا يوحنا) وتشرح لي، ثم يدخل علينا فوج من الحجّاج الروس، يتقدّمهم خوريٌّ سمين، يسجد ويقبّل بلاطة القبر. يخرجون، فتواصل الشرح، وأندهش لطريقتها في الكلام. فهي تتكلّم كلمتين، وتتلع رقبتها لتنظر باتجاه راهبة كنّا رأيناها ونحن داخلان تقف على مقربة منا، في الفناء المجاور.

خوستينا تشرح وتشرح، ثم تقوم وتطلّ برأسها من الشبّاك. وتعود إلى كرسيّها فتسرد عليّ القصة التاريخية المعروفة لهيرودس (تنطقها: "إيرود" بالروسي)، وكيف كان له قصر على جبل الزيتون، ثم تكرّ بخليطٍ عجيب من الأسماء: إيناكينتي، كوستنتين، سالوما، هيلانة، يفيس (بلدة في سورية)، وهي ما تزال تلتفت، حتى جعلتني أشعر أنّنا في خلوة غير شرعية بتفكير المسلمين!
إيش فيه يا خوستينا؟ مالك يا بنت بلدي!

أخرج من عندها وقد استوعبت معلومة واحدة فقط: أنّ رأس يوحنا المعمدان المسكين (وأنا، والله، من المعجبين به، وبصلابته في قول الحقيقة، وأعتبره واحداً من آبائي الروحيين، ولولا ذلك ما جئت إلى هنا) أنّ رأسه ذاك قد تقسّم إلى "تلت شقفات"، بلفظ خوستينا: شقفة موجودة في كنيسة اللاتين بباريس، وشقفة في الحرم الجامعي الكبير في دمشق (ربما تقصد المسجد الأموي)، وشقفة بقيتْ هنا في دير الصعود.

تقول خوستينا ونحن على الباب: أُكتبْ بسّام: راس مار يوحنا قام مرتين!


الخميس 29

أُلاحظ: كلما اقترب موعد رجوع المرضى لغزّة، بانت مخايل الكآبة على ملامحهم، وازداد توتّرهم، مهما حاولوا أن يلجموه، خاصّةً مع المرضى الباقين. معهم حقّ! فمَن يودّ الرجوع إلى "أكبر زنزانة في العالم"؟ هنا نسوا كلّ خوازيق العيش في غزّة: انقطاع الكهرباء، شُحّ المواد الغذائية، غلاء الأسعار، رداءة بضائع الأنفاق، وكلّ نشفان الريق والمكت "لمصابِح لِمّاسي".

هم هنا يعيشون "حياة طبيعية" كانت لهم ذات يوم، وضاعت مع الريح منذ أربع سنوات.

يكتئبون، رغم عودتهم إلى أحضان أهلهم وعائلاتهم، وعلى رأي حاجة منهم: مِلْحِق يا بني على العذاب والخراب!

بوجودهم العابر ههنا، يعتبرون أنفسهم: "شمّوا هوا وشافوا وجه الله"!


الجمعة 30

يتذمّر موظفو وصاحب الفندق، من تصرّفات وسلوكيات بعض جماعتنا. لا أبرّر، وإنّما: لنصغِ إلى هذا الرأي: هؤلاء وأولئك قوم، لم تصلهم فكرة الفندق؛ لم تدخل رؤوسهم بعد. إنّ غالبيتهم الساحقة لم تنزل فندقاً في حياتها. وهم هنا لأوّل مرة في فندق. فكيف لك يا إبراهيم، أن تحاسبهم وكأنهم مرتادو فنادق قدماء؟

أنا مستاء مثلك، ولكنّني أفهمهم. وحتى أبو أكرم، الذي إذا صعد ولم يجد زوجته في الغرفة، وضع طاقيّته تحت رأسه، و"كَوَّعَ" على الباب ونام.

حبيبي، هؤلاء فلّاحون مثل أبيك وجدّك، ومتعوّدون على الجلوس أو حتّى القيلولة على عتبات بيوتهم، فذلك امتداد طبيعي لسلوكيّاتهم الاجتماعية في القرى والمخيّمات.

يابا هذول ناس فلّاحين، فلا تُحمّل الأمور فوق ما تطيق.

أنا مستاء مثلك، ولكنّني أفهمهم. وحتى ذلك النزيل الذي أتى أمس، الرجل الربعة الأسمر الذي لا أعرف اسمه، والذي يجلس في الريسبشن، على الكرسي الجلد، ويشلح شحوطه، ويرفع رجله اليسرى على ركبة الرجل اليمين، وهاتك يا "تفلاية" في باطن القدم الكبيرة المقلوبة، يراها الأميركي الرايح، والهولندي الجاي.

إنّه فلّاح أو ابن مخيم، وفكرة الفندق لم تدخل رأسه بعد.

كل الحقّ يا إبراهيم على عدم دخول "الفكرة" فقط!


السبت...

لدينا مطبخ مشترك في الطابق الرابع. أضع في واحدة من ثلاجتيْه شقفة "أورباك"، اشتريتها بـ15 شيكل، (تحت تأثير الإعلانات) من سوبر ماركت بشارع نابلس. ولمّا كانت الزبدة متوفّرة وبكثرة على الفطور المجّاني، لم أنتبه إليها. ثاني يوم صعدت ولم أجدها. قلت: صحّتين وعافية على معدة مَن هضمها. وبعدها وضعنا كيلو لحمة طازجاً، ولم نجده. تعصبَنَ أخي، وفلقته فقلت: صحتين وعافية. وبعدها بأسبوع، اشتريت عبوة أنسولين بمئة شيكل، ووضعتها هناك. هذا دواء ولا أحد يقترب من دواء ليس له. وثاني ثالث يوم لم أجدها. فماذا سأقول؟ صحتين وعافية على صاحب النصيب؟

إنّ المريض اللصّ، هو اللصّ المريض. وهل تعتقدون أن المرض يمنع اللصوصية؟ غلطانين!


الأحد 2...

يُعمُر بيت السلافيين قديش حلوين! والله جمالهم ملوش نظير ولا مثيل ولا شبيه. فيه مسحة سامية، وسيماء نُبل. لا بدّ أنّ أرواحهم حلوة، فحلاوة الروح تنعكس على الجسد فتزيده حلاوة. حين شفت العديدات من نزلائهم، كدت أصاب بذلك الرعب الذي تكلّم عنه دوستويفسكي أمام الجمال.

ومرّة، في كنيسة نصف الدنيا المقابلة للقبر المقدّس، جلست على كرسي أتأمل الزوّار والقباب العالية والرسومات، فجاءت شابة روسية وجلست بجواري.

يا إلهي السرمدي!

هذا جمال كثيرٌ على أمثالنا نحن الفانين.


الإثنين...

أكون في البلدة القديمة... ويحدث هرجٌ ومرج. إيش فيه؟ أسأل كهلاً. شرطة بلدية الاحتلال تلاحق أصحاب البسطات، يردّ. أواصل طريقي في شارع الواد. يا أولاد الشليتة! تلاحقون الناس على رزقها؟ فلّاحات بسيطات من خلف الجدار - من قرى بيت لحم وسواها، جئن لبيع بضاعتهنّ هنا للمقادسة والسيّاح، فلمَ يُلاحقن؟ ولمَ هذا التنغيص وتلك المضايقات وقطع الأرزاق؟ قطع الله أعناقكم أيها الكلاب.

أحزن وأنا أرى فلاحة سمينة، في السبعين أو فوق، وهي تهرول لامّةً بضاعتها على عجل وخوف، خشية منهم. آه يا أم! آه يا حجّة! وقعنا في لَمَم مَن لا يعرفون عهداً ولا أخلاقاً. ألا توجد لهم أمّهات هم أيضاً؟ أم أنهم نزلوا من أرحام الشياطين والسعلاوات؟


الثلاثاء...

يُصاب بعض الحجّاج بحالة تُسمّى جيروزالم سندروم (مُتلازِمة القدس). يأتون من أقاصي الدنيا، وحين يمشون فوق خطى المسيح، تصيبهم الحالة. حدثني يوسف أبو الهوى، القيّم وخادم كنيسة المصعد، عن غربيّات يطلبن منه الخروج وإقفال الباب الخارجي للكنيسة، ثم يخلعن ملابسهن كلها تقريباً ما عدا ورقة التين، ويدخلن في الحالة: هذيان ودوار وغثيان وصراخ عصبي وارتعاش وبكاء ينفجر ويتصاعد و... و... حتى يدخلن الغيبوبة.

قال: النساء يُصبن أكثر من الرجال.

وفي كنيسة القيامة، حين وقفت في الدور لأكثر من ساعتين، حتى أدخل القبر المقدّس، لاحظت أنّ بعض الواقفين، وكانوا إيطاليين، يكتب طلباته على ورق صغير ويدسّها في شقوق الهيكل الخارجي للقبر.

حدثني عن يوم كان اليهود قلّة لا تُذكر في القدس

كما لاحظت، في زيارة سابقة للمكان، أنّ معظم الحجّاج، وأغلبهم روس، ينامون على بلاطة القبر التي غُسّل عليها المسيح بعد الصلب، ويقبلونها وينثرون ما يحملونه من حاجيات في شنطهم اليدوية فوقها ، بهدف التبرّك.

المناظر ذاتها، إنما دون تعرٍّ، رأيتها في مسجد الحسين بالقاهرة، ومسجد الإمام الكاظم في بغداد.

فالدين هو الدين. والإنسان هو الإنسان، يهودياً كان أو مسيحياً أو مسلماً. ما لم يعصمه عقله، فلا عاصم له.

... رحمك الله يا أبا العلاء.


الأربعاء...

لم أرَ. لم أتكلّم. لم أسمع. أمضيت اليوم بطوله محموماً، وجفناي مُصمّغان. أخرج من حلم وأدخل في حلم. ومع أنهما، كما ورد، حلمان، إلا أنّهما في الحقيقة حلم واحدٌ يطفو على بحر من عَرَق:

أراني مع أبي جورج في كنيسة القيامة، وحاخام يهودي (ليش حاخام؟ لا أدري) يُلقيني من فتحات القبّة المهيبة، فأسقط في مغارة سوداء من أثر الشموع. وهناك يلحقني هوغو تشافيز (أي نعمْ يا ابن الأوادم: هوغو تشافيز ما غيره)، وبسيفه المشرع يحاول إيذائي. فأهرب، أهرب وأختبئ في مكان من الكنيسة، أشبه بقاعة، قيل إنّ الرسل كتبوا أناجيلهم فيه. ومن هناك أرى فراس السوّاح (والله العظيم فراس السواح، مع أنّي لم أره مرة على أيّ شاشة، فقط رأيت له صورة في موقع)، فأندبّ في حضنه الكبير: دخيلك يا فراس، هوغو بدّو يقتلني، فيلبث فراس بضع هنيهات، ثم يقول بكلّ رصانة الباحث: ملكش حق يا رفيق هوغو. هذا صاحبنا ليبرالي وعقلاني، وإن فقد نصف عقله في القدس.

ثم يطلع لي مناحم بيغن من قبره قبالة الأقصى، بلبوصاً كما خلقتني يا ربي: تهروغ إتْ تو مار تشافيز. ختيخات موشرير موتمتام. وهل هذا وقته يا أحول الكلب؟

وفي أقل من ثانية زمن، أكون عند يوسف أبو الهوى الحمساوي، فيسخر أمامي من لؤي تبع حزب التحرير: بدهم الخلافة وهُمّا كاعدين ع الشراسي. في عرضك يا يوسف، أنت قوي وشديد وتقدر على هوغو، وكلامك عن لؤي خارج السياق. لكن يوسف، تلميذ جميل السلحوت في المدرسة، لم يأخذ بخاطري ولا بخاطر أستاذه، ومعطني كفّ، وإذا بي في بطن سمكة في بحر يافا.
ثم لا أدري كيف، وإذا بهوغو تشافيز يختفي، وأجد نفسي أقع من حالقٍ، فأرتطم بقبر طنطور فرعون القريب، وامرأة فاتنة (تكونش نفرتيتي؟) تدخلني جوف القبر وتُلبسني كفنيْن حتى لا أبرد!

في الصباح التالي، أذهب ليوسف وهو يبيع التذكارات للسيّاح، وأصرخ في وجهه: خذلتني يا شيخ، ألله لا يسامحك.

وإلى هذه اللحظة، والأغلب إلى أن يموت، لن يعرف يوسف السبب!


الخميس

خرجت صباحاً مع ثلاث من النسوة للتبضّع والصلاة في قبّة الصخرة. تبضّعت بـ400 شيكل. شنطة يد لابنتي منى بـ25 شيكل. بنطلون لي بـ40. 2 كيلو قطّين بـ20. سويتر شتوي بـ70. مُلبّن بـ30. إترنغات للأولاد بـ55. بابوج وقشاط جلد بخمسين. وخلافه...

ثم وضعت المشتريات عند بائع خليلي، وتوجهنا للمسجد.

عبرنا الحاجز عند باب الناظر، ولم ينتبه لنا جنود الحراسة و"الأمن".

اتّفقت مع النسوة على انتظارهن عند الباب في موضع معيّن، بعد انتهاء الصلاة، وذهبت لمسجد الصخرة.

إنّه تحفة فنّيّة بكلّ المقاييس. درتُ في أرجائه ورأيت الخزانة التي يُقال إنّ بها شعرتين من شعر الرسول. وقفت واستمعت إلى "مرشد" مع طلّابه وهو يشرح لهم تاريخ المكان. قال: عندما استولى الصليبيّون على الحرم، طوال تسعين عاماً، كانوا يقولون إنّ مَن يضع يده في فتحة هذه الخزانة، تُغفَر له ذنوبه جميعاً. أمّا نحن المسلمين فلا نؤمن بالتبرّك بالحجر. وقال إنّ الشعرتين ذهبتا، واحدة إلى مسجد الجزّار بعكا - يُخرجونها هناك في 27 رمضان وفي 15 شوال، للتبرّك ــ وواحدة ذهبت إلى إسطنبول وموجودة حتى الآن هناك.

كان مع جمع المستمعين طفلتان عكّيتان، فأكّدتا أنّهما رأتا الشعرة وكانت بطول 8 إلى 10 سم.

نظرتُ للطفلتين وشعرت بسعادة غامرة وفيض محبّة نحوهما. فهذه أوّل مرّة في حياتي أرى عكاويين! وفوق ذلك فهُما في غاية الملاحة وخفّة الدم والبراءة، خاصّةً وقد لبستا لباس الصلاة المشهور في بلادنا كلّها بقطعتيه.

بعدها جلستُ مع شيخ مقدسي من عائلة أبو الهوى. مواليد 1926، وأخبرني أنه عمل آذناً في التعليم لمدّة خمسين سنة قبل أن يتقاعد. شيخ قليل البنية، لكنه نشيط جدّاً. وقد انتبهت أثناء الصلاة أنه يقوم قبلي بعد السجود.

حدّثني عن ذكرياته أيام الإنكليز، وكيف كان اليهود قِلّةً لا تُذكر في البلدة القديمة، فلا ترى منهم عند حائط البراق سوى اثنين أو ثلاثة مش أكثر.

حدّثني كذلك فأخبر أنّ أغلب تجار القدس هم خلايلة. بل معظم سكانها الحاليين من أصل خليلي.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنصّ من يومياته في القدس المحتلة عام 2009

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون