"محادثة ليلية" لـ ساشا ناسبيني: لعبة الذكريات الخطيرة

20 يوليو 2024
محادثة ليلية
+ الخط -
اظهر الملخص
- **رواية "محادثة ليلية" لساشا ناسبيني تتناول موضوع الندم من خلال شخصيات عجائز خائبين، حيث يتكشّف ندمهم في ليلة واحدة عبر مكالمات هاتفية، وتُظهر كيف يمكن لحدث الموت أن يُفجّر السرد ويكشف حقائق الحياة المخفية.**

- **تتوالى الأحداث عندما تتصل الزوجة بالطبيب البيطري لإنقاذ دجاجتها، لتنكشف سلسلة من الحقائق المفاجئة: الطبيب مدمن كحول، جار الزوجة، صديق الزوج المتوفى، وعشيق الزوجة ووالد ابنتها.**

- **الرواية تُبرز الشقاء الذي تعيشه الشخصيات المغبونة بالعاطفة، وتكشف أن الزوج المتوفى كان يعرف بخيانة زوجته وتربية ابنة ليست من صلبه، مما يضيف بعداً تراجيدياً وساخراً.**

يمكن لشخصيات الكاتب الإيطالي ساشا ناسبيني (1976)، في روايته "محادثة ليلية"، أن تكتسب تعريفات عدِّة، أقرب تلك التعريفات أنَّهم عجائز، وهُم عجائز خائبون. وما جعلهم خائبين اقترابُ الموت، وفوات الحياة بالصورة التي أرادوا لها أن تمضي بها مع أحبّتهم. باختصار، إنّها رواية عن الندم. ندمٌ يتكشّف وينهار في ليلة واحدة نقضيها مع الشخصيات عبر الهاتف.

الرواية، الصادرة حديثاً عن "دار الكرمة" بترجمة أماني فوزي حبشي عن الإيطالية، هي من تلك الروايات التي يصنعها حدثُ الموت؛ الذي غالباً ما يُفجّر السردَ باحتمالات كانت مخبّأةً عنوةً بسبب حقائق الحياة. إلّا أنّ الموت، ذلك الحدث الخارج عن كلّ سُلطة، هو آخر الحقائق التي تُقدّمها الحياة، وهو الحقيقة التي تدفع بالزوجة إلى الإقرار بأنَّها أمضت سنيَّ عمرها في زواجٍ استطاعت، خلال أيام من موت الزوج، أن تستبدل به دجاجةً تجلس إلى جانبها على الأريكة، وتستخدمها كي تقصّ عليها حكايتها.

مع سكون الدجاجة، وتصلُّب جسدها لأمرٍ لا نعرفه، تتّصل الزوجة بالطبيب البيطري في العاشرة مساءً، وتطلب منه إنقاذ الدجاجة؛ ثمّ تتوالى الحقائق، ونكتشف أنّ الطبيب مدمن كحول، وهو جارُ الزوجة، وهو صديق الزوج المتوفّى؛ وقبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً؛ هو عشيق الزوجة، ووالد ابنتها... مفاجآتٌ تحدث وتتوالى بصورة يصير معها عبور الليل عبوراً خانقاً، وبصورة يعود فيها للرجل الثمل صوابه، وبصورة تصحو معها الدجاجة، وتبيض؛ وتمضي الزوجة كي تُعِدّ لنفسها البيض المقليّ. وهذه التفاصيل الصغيرة التي تنتهي معها مكالمةٌ يحتاج المرء مضيّ عمره كاملاً حتَّى يجريها؛ أكثر ما تُظهر أنّ الأحداث الكبرى التي ترسم حياة الشخصيات، والناس بصورة عامّة، إنَّما تحايد وتجري، وأحياناً تصنعها أحداث صغيرة تكاد لا تُذكر؛ إلا أنّها بمرور الوقت تصبح الحدث الأساسي.

أحداث صغيرة تكاد لا تُذكر تصبح بمرور الوقت الحدث الأساسي

ومن تلك التفاصيل، التي تكاد لا تُذكر إلّا أنَّها تعود لتشمل أحداثاً أكبر، التلبّك المعوي الذي أصاب زوجة الطبيب البيطري، ومنعته عن الالتحاق بعشيقته على الطريق كي يهربا من حياتهما الزوجية. الزوجة التي نحزن لموت زوجها في بداية الرواية، نحزن لحالها وهي تنتظر عشيقها الطبيب البيطري على الطريق، كي يأتي ويأخذها إلى حياة أرادتها، إلى درجة أنَّها عندما خرجت من المنزل في تلك السنوات البعيدة، خرجت وهي تُدرك أنّها لن تعود إليه مرّةً ثانية. إلّا أنّ العودة أعقبت الخروج بساعات، وتلك العودة دفعتها إلى أن تعتبر حياتها قد انتهت، إذ عاشت باقي عمرها تَعتبر نفسها ميتة. كأنّما الموت الحقيقي للزوج هو ما بعث الحياة فيها، ودفعها إلى الاتصال بالعشيق الغابر ومواجهته، وإخباره أنّه وغد، لأنّه لم يأت، لأنّه تركها.

الصورة
ساشا ناسبيني
ساشا ناسبيني (تصوير: س. أندولتشيتي)

إذاً، تعاملت الزوجة مع حياتها على أنَّها عقاب، والشعور بالحداد على نفسها لم يفارقها. لكن في مستوىً من النص، نُدرك أنّ حدادها لم يكن على نفسها بقدر ما كان على حُبٍّ تُرك على قارعة الطريق. وفي الرواية تبدو هذه الأحداث الكبيرة التي رسمت حياةً كاملة هامشاً. فالنصّ غنيٌّ، ليس بالأسى وحده أو العذوبة والرهافة، إنّما هو مليء بلحظات قاسية وعنيفة ومضطربة، لا تملك أيٌّ من الشخصيات تفسيراً لها عند حدوثها؛ لأنّ الصورة لا تكتمل إلّا بانعقادِ تلك المحادثة، إلّا بانقضاء الأعمار جميعها.

رواية الكاتب الإيطالي، الذي نقرأه بالعربية للمرّة الأُولى، تُظهِر بصورة لا مراءَ فيها الشقاء الذي تمضي عليه حياة أشخاص مغبونين بالعاطفة؛ حتّى لكأنّ أكثر أشكال الحُبّ التي يحفل بها النص هو حُبُّ المتوفّى لزوجته، إذ نعرف في مكان من الرواية أنّه كان يعرف بخيانتها له، وأنّه يُربّي ابنةً ليست من صلبه، وأنّه يحتمل زوجةً استطاعت بعد موته بأسبوع استبداله بدجاجة... فكرةٌ تراجيديّة مع أنّها يمكن أن تكون فكرة ساخرة في الوقت نفسه. إذاً، الشخصيات ليست أكثر من شهود على بعضها، شهود على عبورها الحياة بالصورة الأليمة التي عاشتها. وربما يكون في شهادة أحدها على طريقة عيش شخصيةٍ أُخرى مواساة ما.


* روائي من سورية

المساهمون