كشف حساب للديمقراطية الأميركية

16 اغسطس 2021
جزء من لوحة لـ حسن شاكر آل سعيد، 1984
+ الخط -

يمكننا ادّعاء أنّ ما حدث مع مسعد هو نتاج لوسواسه القهري الذي قد تلبّسه منذُ ولادته، وكما يفسر بعض الناس ما هو إلا جرعة مضاعفة من وسواس والده، وأنّه ورثه من تراكم جيني عائلي.

مسعد يفكر كثيراً في أيّ شيء، حتى الأشياء السخيفة التي لا تستحق التفكير، بل على العكس كان يُكثر التأمل فيها، والتخوّف من عواقب لا يمكن أن يتخيّلها أحد غيره.

وإضافة إلى ذلك، كان يحدّد تمائم معينة على أنّها مفاتيح لحل كلّ شيء، فهو لا يدخل امتحاناً دون أن يقرأ سورة الكهف كاملةً، والتي تأخذ منه على الأقل نصف ساعة في القراءة السريعة، لذا تجده يقف عند قاعة الامتحان يقرأ من المصحف وهو يشهق خوفاً من أن يسرقه الوقت ويدخل للامتحان دون أن يكملها، ويكرّر الطقس نفسه قبل مباريات المنتخب الوطني وفي أيام الحروب والعواصف.

إضافة إلى ذلك نبت لمسعد طقس قهري جديد، فبعد وفاة ابن عمه "علي" صار يُلزم نفسهُ بقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرّات قبل النوم ويهديها لروحه، اعتقاداً منه أنّ هذه المرّات الثلاث ستضيء قبر ابن عمه.

كأنّها فواتير معدة بالأرقام لإرسالها إلى جهةٍ ما

ومع موت صديقه بسبب حادث سير، قرر أن يلتزم بإضاءة قبره أيضاً. ومع الوقت صار يفقد الكثير من الناس تباعاً، حتى أنّ أغلبهم لم يكونوا أصدقاء مقرّبين منه، لكنه يفعل ذلك بمحبة كأنّه يتعرّف عليهم للتو، كلّ ذلك كان مسيطراً عليه وضمن الممكن، حتى جاء 6 شباط من العام 1991 حين قُتل والده مع زملائه الضباط في واحدة من خنادق الجيش العراقي في البصرة، فقد قصفت الطائرات الأميركية تلك الخنادق بقذائف "النابالم"، تلك القذائف المحرمة دولياً، التي سرعان ما رفعت درجة حرارة الخندق إلى 800 درجة سيلزية مع وميض حارق، وتسببت بإذابة أجسادهم على الفور.

ومع الليلة الأولى لموت والده، أخذ على نفسه عهداً بأن ينير قبره وصار يقرأ له سورة الإخلاص ثلاث مرّات قبل أن ينام، ولم يكن يستطع أن يتجاوز مصيبة أصدقاء أبيه فطلب أسماءهم أيضاً مع أسماء أُمهاتهم ليهدي لهم قراءة سورة الإخلاص، وينير تلك البقعة من المقبرة بشكل دائم.

واظب مسعد على ذلك، وليكون أكثر دقة في إهداء تلك الآيات دون أن ينسى أحداً، استخدم دفتراً مجدوِلاً فيه أسماء المقتولين، إضافة إلى حقل فارغ يدوّن فيه عدد المرّات التي قرأ فيها الإخلاص لكل منهم.

وبعد ثمانية أيام من مقتل والده، هاجمت طائرة من نوع شبح ملجأ العامرية بصاروخ موجه بالليزر محدثاً فتحة في السقف لينفجر في مستشفى الملجأ. وبعد دقائق وجّه صاروخ آخر عبر الفتحة نفسها، تسبّب بغلق بوابات الملجأ التي تزن حوالي ستة أطنان، وأحرقت الحرارة التي تناهز الألف درجة 400 شخص داخل الملجأ بين رجال ونساء وأطفال.

هزّت هذه الحادثة البلاد، شاهد مسعد كلّ ذلك عبر التلفاز، جثث محترقة تُنتشل من حوض الماء الساخن بفعل الإطفاء، كأنّه قدر عملاقة لسلق الجثث.

لم ينم في ليلتها ولا الليلة التي تلتها، حتى حصل على قائمة كاملة بأسماء المقتولين، 400 اسم أضافها مسعد لقائمته الليلية، ولم يعد دفتره يكفي لتلك الأسماء، فاستخدم ألواحاً خشبية وطباشير، ورسم عليها جداول بأسماء المقتولين وخانات لعدد الآيات.

كان يحتاج إلى ثلاث ساعات قبل النوم لينير مساحة تقدّر بألف متر من المقبرة، هذا ما كان يجعله يُصاب بالإعياء أحياناً.
ومع تلاحق القذائف التي سقطت على البلاد والتي تقدر بثمانية وثمانين ألف طن من القنابل، صار مسعد يستخدم أوراق الجدران في جدولة أسماء المقتولين، ولم يكفِ بيته بكل الجدران التي فيه لاستيعاب أسماء القتلى.

وجِدَ مسعد بعد ذلك منزوياً على نفسه متيبساً في بيته، وقد جفّ حلقه وجحظت عيناه وازرقّ جلده. مات مسعد بين أسماء المقتولين المجدولة كأنّها فواتير معدة بالأرقام لإرسالها إلى جهةٍ ما. 


* كاتب من العراق، والقصة من سلسلة قصصية بعنوان "لو أنني منعتُ الديمقراطية من أن تركب على ظهر الدبابة" تصدر العام المقبل، وهي المجموعة الحائزة على منحة تفرّغ من مؤسسة "مفردات" في بلجيكا.

موقف
التحديثات الحية
المساهمون