في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، يلوم عمر فرّوخ مَن سمّوا العصر الذي تلا سقوط الدولة العباسية باسم "عصر الانحطاط" وأطلقوا على أدب تلك المرحلة اسم "أدب عصر الانحطاط". يقول: "إنها تسمية فيها قليل من الصواب والحقّ، وكثير من الخطأ والباطل". والراجح أن تلك التسمية نجمت عن اليقين من أن الأدب والفن انعكاس مباشر للأوضاع السياسية والاجتماعية، بحيث انقلب الشعر مع انقلاب الخلافة، من الاستقلال إلى التبعية.
فهل ينتج الانحطاط السياسي انحطاطاً في الأدب والفن؟ نظرياً، ثمة مَن يقول ويؤكّد وجود مثل هذه الرابطة؛ تحدّث الماركسيون المدرسيّون عن انحطاط الفن في ظلّ الرأسمالية، بينما رفض ماركسيون آخرون هذه المقولات. خذ إرنست فيشر وروجيه غارودي مثلاً، ففي كتاب "ضرورة الفن" لفيشر، أو "واقعية بلا ضفاف" لغارودي، ما يؤكّد أن الأدب والفن يحتفظان بقوّة استقلال تكفي كي يتخلّصا من احتمالات الانحطاط الأخلاقي والفكري اللذين تُتّهم بهما الرأسمالية.
ينفي مثل هذا المفهوم، عن التطابق بين الأدب والفن والطبقات المسيطرة، دورهما في الحياة الاجتماعية، كما ترسم النظرية حدوداً دقيقة تجعل الأدب فيها تابعاً يسقط بسقوط الدولة أو الحاكم. والراجح أن الرغبة في تقبيح الأوضاع السياسية أفضت إلى وضع أدب العرب جميعاً خلال أكثر من خمسمائة سنة في سلّة الفكرة التي تقول بأن الأدب والفن نتاج ميكانيكي للتقدّم، أو للتخلّف، السياسي والاجتماعي.
الطريف أن زمننا لم يقدّم بدائل لعصر الدول المتتابعة التي ظهرت بعد سقوط العباسيين
الخسارة العملية التي نجمت عن هذا المفهوم الذي يفتقر إلى العدالة أنه ألغى وأجّل الانتباه إلى كثير من الأعمال الأدبية في التاريخ الأدبي العربي. خذ مثلاً الأدب التمثيلي العربي الذي أنشأه محمد بن دانيال وعُرف باسم "خيال الظل"، وخذ مثلاً "سيرة الظاهر بيبرس"، وهي واحدة من السير الشعبية التي لم تنل حظّها من الاهتمام حتى اليوم على الرغم من أنها قد تضاهي أعظم السير الشعبية في العالم، أو "حكايات ألف ليلة وليلة" التي اغتنت وتطوّرت في ذلك العصر وأضحت في العصر الحديث من أكثر الأعمال شهرة وتأثيراً في تاريخ الأدب العالمي.
الطريف أن زمننا لم يقدّم بدائل لعصر الدول المتتابعة التي ظهرت بعد سقوط العباسيين. أي لم توجد بعدُ الدولةُ التي تبني مجتمعاً متقدّماً من أيّة ناحية كانت، بل إن الدولة العربية المعاصرة أعاقت تطوّر مجتمعاتنا. كأن التاريخ يلعب لعبته الأثيرة بأن يعيد إنتاج نفسه بصورة أكثر مأساوية، أو أكثر هزلاً، بينما نرى الأدب العربي يحاول أن يقدّم البديل الإنساني والأخلاقي للضعف السياسي.
يأتي هذا الرأي من أولئك الذين يرون الأدب تابعاً لا يفعل شيئاً سوى أن يعكس الواقع، ولا يستطيع أن يجدّد القول فنياً، بسبب انتفاء شروط التجديد. إذا يفترض أن تكون الجودة الأدبية، والسموّ والرفعة والقيمة موجودة لدى الحاكم والسلطان. اللافت أن النماذج التي قدّمها الباحثون في أدب عصر الانحطاط كانت كلها لكتّاب متوسّطي المواهب، أو معدومي الموهبة والضمير. وفي هذه الحال، فإن الكاتب أو الشاعر لا يملك شيئاً يقوله أو يجدّده غير الوقوف على عتبات السلاطين في كلّ عصر.
* روائي من سورية