قشّ وصفيح

16 اغسطس 2024
طابور عند مبنى "الوكالة الفدرالية البلجيكية لاستقبال طالبي اللجوء" في بروكسل، كانون الثاني
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الرساميل تهيمن على العالم بسبب العوز الفكري للسكان، مما يؤدي إلى إفقار المشاعر في بلجيكا، خاصة في إقليم فلاندرز.
- بلجيكا تعاني من نقص في الأطباء النفسيين، مما يزيد من تكلفة العلاج النفسي حتى للطبقة المتوسطة، ويعكس سيطرة إله السوق.
- الكاتب، بعد خمس سنوات ونصف من الإقامة، يلاحظ أن اللاجئين يعانون في المخيمات، ويصف المجتمع الغربي بأنه أجوف من الداخل، يفتقر للسعادة وهداوة البال.

نعم: نجحت الرساميل، وفرضت هيمنتها على أربعة أركان الأرض. السبب، من باب الاجتهاد؟ ليس إلّا نتيجةً للعوز الفكري للسكّان، في المحلّ الأوّل، من بين أسباب أُخرى. لقد لاحظتُ هذا العوز، فور أن جئتُ بلجيكا من إسبانيا: ثمّة فروقٌ هائلة بين شعبَي البلدَين. بلجيكا بلد رأسمالي متطوّر أشواطاً عن إسبانيا، ولهذا تحديداً، يشكو سكّانه من العوز الفكري في الدماغ، ومن الإفقار الممنهَج في المشاعر، مِن بين أشياء مختلفة وعديدة - أتكلمّ هنا عن إقليم فلاندرز الثريّ، الذي أعيش في عاصمته.

أظنّ أنّ خمس سنوات ونصف من الإقامة بينهم تعطيني، على الأقل، حقّ هذا الانطباع.

بلدٌ يحكمه إلهُ السوق، ماذا تنتظر منه؟ بلدٌ تكثر المصحّاتُ النفسية، حتى في دساكره الصغيرة، وتبلغ ساعة الطبيب النفسي، سعراً باهظاً، تشكو منه حتى الطبقة المتوسّطة، ماذا تنتظر منه؟ الأطبّاء النفسيون المخوَّلون بوصف الدواء، هُم أهمّ ما ينقص بلجيكا. هنالك معدنان شديدا الندرة هنا هما: الألماس والبيسخاتِر.

الغريب، وما غريبٌ إلّا شيطان الرأسمال، أنّ عدة عبورات على كلّ من ألمانيا والنمسا وهولندا وفرنسا، وضعتني في نفس ذلك الانطباع. وضعتني حدّ الشعور بأنّ شرّ بلجيكا أهون من شرور هذه الدول، بسبب من انقسام شعبها إلى فرنسيّين وهولنديّين. في الدول الأربع أعلاه، رأيت إله المال "بلوتوس" نفسه، ولكن برفقة أورويل.

بلدٌ تكثر المصحّاتُ النفسية حتى في دساكره الصغيرة

على الأقلّ، أورويل أخفّ دماً في فلاندرز، ومهما فعل، لن يبلغ مستوى بايدن الألماني والنمساوي والهولندي والفرنسي.

أمّا الأغرب من الغرابة ذاتها، أنّ كاتب هذه الأسطر جاء فلاندرز بعد ادعاءات من لاجئين سبقوه أنّها الأكرم والأرحم على العرب، في عموم القارّة. إنّها، بلسان المثقّفين ـ لا مؤاخذة يعني ـ شقيقتنا الكبرى: إيثاكا.

لم يصحّ هذا الزعم بالطبع، لا عند لاجئ مثقّف ولا عند لاجئ غلبان (إلى اليوم لا أعرف ما هو الفرق الحقيقي بين الاثنين).

وبما أنّ جوهر ذاك الزعم لا علاقة له بأيّ ظرف تاريخي، في أيّ بلد من بلدان العالم، فقد ذاب الثلج وبان المرج، دون مرور وقت طويل ـ وهذا جِدّ مؤسِف.

خمس سنوات ونصف، رأيتُ خلالها كيف يموت اللاجئون في المخيّمات: كيف لا يحظون بحدّهم الأدنى من النعاس، بسبب كلّ ما يتعلّق بالمصير من هواجس وهلاوس. تعاملتُ مع بشر بيض من بلاستك. رأيتُ غرباً أجوف من الداخل، لا يسكنه القشُّ وإنما الخواء. فزمن القشّ (الذي يذكّرنا بسنابل الأرض الطيبة) كان فقط على أيام الشاعر الإنكليزي المؤمن.

رأيتُ كثرةً بيضاء من نساء ورجال وحتى فتيان وفتيات، تبحث عن أيّ يد لتتشبّث بها: عن أيّ كتاب تافه، أو وجبة جنس سريعة، ربما تتعلّم منهما ما تفتقر إليه بإلحاح: السعادة وهداوة البال.

لا سعادة ولا هداوة بال مع الرأسمال، يا خال. لقد كنّا نعرف هذه الحقيقة، تحت سقوف من الصفيح، منذ نصف قرن على الأرجح. واليوم نحن في قلبها لا على الهامش.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون