إعلان مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون توقّف مجلة "بانيبال"، التي بجهودهما استمرّت خمسة وعشرين عاماً في تقديم الأدب العربي الحديث باللغة الإنكليزية، والتي لا نظير لها في ما تكرّست له وأخذتْه على عاتقها، هو خسارة لـ الأدب العربي الحديث. استمرّت "بانيبال" ربع قرن كاملاً في خدمة الأدب العربي وعرضه وتقديمه للعالم. ولم يحظَ الأدب العربي، إلا في القليل النادر، بفعالية مماثلة.
وإذا تكلّمنا عن ربع قرن، فإن ما عنته المجلّة للأدب العربي الحديث، ليس له مثيل، وما سيتركه غيابها من فراغ سيكون واسعاً وملحوظاً. أن تكرّس مثقّفة إنكليزية مثل مارغريت أوبانك، وزوجها الكاتب العراقي صموئيل شمعون، هذا المدى من نفسيهما وحياتهما للأدب العربي، وأن تقوم بفضل ذلك مجلّةٌ عامرة برعاية هذا الأدب ومتابعته، طوال هذا الزمن. أن تقوم بجهودهما هذه المجلّة في استقبال الأدب العربي، وملاحقته في زمنه المعاصر، وتقديمه بأكثر اللغات عالمية وانتشاراً.
مجلّة كهذه تتطوّع طوال هذا الوقت بنقل هذا الأدب إلى العالم، من دون أن تصدر عن دولة، ومن دون أن تتلقّى تمويلاً خارجياً مستداماً، ومن دون أن تخدم أية جهة حاكمة أو سلطة، وأن تقدر بفضل اثنين، على أن تبقى هذا الوقت في خدمتها وفي كفاحها، إذ إنّ ما أناطت هذه المجلة نفسها به لا يخرج عن أن يكون تطوّعاً وكفاحاً حقيقياً.
تتوقّف "بانيبال" بالإنكليزية مع استمرار نسختها الإسبانية
إنها خمس وعشرون سنة، كانت عدداً بعد عدد تلاحق مجريات الأدب الحديث وآثاره وأشخاصه بكرم حقيقي. ضيوف هذه المجلة من آثار وكتابات يحظون غالباً بحفاوة فعلية. يتواصلون مع الجمهور الغربي بأدبهم وكلامهم وأحاديثهم، في أجواء واسعة ورحبة ووافية. لم يصدر طوال هذا الوقت أثر على درجة من الأهمية ولم يجد مكاناً له في المجلّة، ولم توجد مغامرة جديدة لم تلق التفاتاً منها. إذ، عدداً بعد عدد، استطاعت "بانيبال"، بجهود محرّرَيْها وصاحبَيْها، أن تملأ ما يقرب من المئة وخمسين صفحة من القطع الكبير بموادّ شتّى. نصوص وأحاديث وملفّات، مع صور شخصية بفنٍّ لافت.
المجلّة كانت نموذجاً في الإخراج وفي الفن الصحافي. كلّ هذا العمل الواسع المتعدّد الغنيّ بالأصول والفروع، المشغول بلغة منقولة عن الأصل، كان بجهود شخصَيْن، ولا يخطر لأحد أن عملاً بهذه الكثافة كان في حقيقة الأمر عملاً بيتياً، عملَ هواة وناشطين وأصدقاء مناصرين للأدب العربي. إذ استمرار المجلة بهذه الوتيرة طوال هذا الوقت، الذي كان بجهود أسرة صغيرة، يبدو الآن، لذلك، عملاً فروسياً، ومثلاً للخدمة التطوعية، والتكرّس الفعلي. مجلة كهذه تقوم على الترجمة، ترجمة نصوص إبداعية ودراسات وأبحاث وأحاديث وملفّات كاملة، تحتاج إلى عمل من جانبين.
هناك المادة العربية من نصوص ومقابلات ودراسات، وهناك نقل ذلك كلّه إلى الإنكليزية. أي إنها بحاجة إلى جهد مزدوج، وإلى عملية من مرحلتين وبلغتين، بالإضافة إلى ما يقتضيه ذلك لتوضيب المادة وعرضها، من فن في الإخراج وفي الصحافة. كل ذلك الذي يجمع بين البحث والترجمة والفن، هو، في مجموعه، مؤسَّسي منتظم، لا يسعنا أن نتخيّل أنه عمل أسرة ضيّقة، وأنه استمرّ مع ذلك كلّه هذه المدّة الطويلة. بالطبع، كانت هذه المجلة مرجعاً حقيقياً للأدب العربي.
لا بدّ أنّها كانت كذلك للمهتمّين بالأدب العربي. لا بد أنها كانت مفتاحاً لهذا الأدب في شتّى النشاطات الأدبية في العالم. كانوا في المهرجانات والمؤتمرات الأدبية يستشيرونها، ويعودون إليها. كانت، بما حوتْه من مقابلات وأحاديث وملفات، مدخلاً لكلّ المهتمين بالعالم العربي وأدبه. بالطبع، لا نستطيع أن نُحصي كلّ الأسماء والآثار والنشاطات التي قدمتها المجلة طوال هذه الأعوام. يمكننا فقط أن نذكر بعض الملفّات التي حوتها؛ ملفات عن الأدباء في السودان واليمن والكويت وفلسطين ومصر وتونس والإمارات، والرواية في السعودية وفي ليبيا، والشعر في لبنان... يمكننا أيضاً أن نذكر"جائزة سيف غباش - بانيبال للترجمة الأدبية من العربية إلى الإنكليزية"، كذلك هناك نسخة إسبانية من "بانيبال" قامت، وما زالت مستمرّة.
لم يكن وراء وقف المجلّة سبب خارجي. لم يكن نقص التمويل، كما لا بدّ يخطر لأول وهلة. كأنه العمر ونفاد الطاقة. مارغريت على عتبة الثمانين، وقد اكتفت من العمل المضني في المجلّة، التي أنفقت فيها ربيع حياتها. تتوقّف "بانيبال" مع استمرار نسختها الإسبانية. إنه عمل فعّال بلغ تمامه، ويبحث عمَّن يتابعه، في لاحقه ودورته الثانية. سيفتقد كثيرون "بانيبال" التي ستكون أكثر فأكثر مثلاً حيّاً ونموذجاً يبني، على الحداثة، ما يمكن اعتباره مغامرة كبيرة كاملة، وإنْ قامت تقريباً بجهد فردي.
* شاعر وروائي من لبنان