في مكانٍ ما، على ضفافِ نهرٍ عظيم، ينتصبُ رجلٌ وَسط الوَحْل مستظلًا بِسدٍّ ضخم. لَيس بالإمكان تمييز قامته عن الطين من بعيد. جسدُه الملطّخُ به، البقع المتناثرة في وجهِهِ كالنّمش؛ حتى البنّي الغامقُ في عينَيه مُتماهٍ معها، يميّزُهُما فقط بريقٌ مُتوهّج مثل فُلوسٍ تلمَع فوقَ ذَيْلِ سَمَكة. ربّما هو الرَّجلُ الأوّل، الذي شكّلتهُ الآلهة بيدَيْها وَعلى هيئتِها.
الإنكا، الماوري، البابليون، المصريون القدامى، الصينيون، الهندوس، اليوروبا، السومريون. إمبراطوريات قامت وَتداعت، بِحار وَجبال ماجَت وَسنون انطوَت، والكلُّ يتناقل القصة نفسها: الإنسان وليدُ الطين.
حتى بروميثيوس الحكيم، صبّ البشر من ماءٍ وتراب، وَسَرَق من جبال الأوليمب قبَسًا من النار مُسبِغًا عليهِم قوّتَها.
في عصورٍ مُتلاحقة، توحّدت الآلهةُ في إلهٍ واحد، التقَمَ الميثولوجيا التي صدّقناها فيما مضى وَصبّها في قالبٍ آخر، لكنّه احتفظ بالقصّةِ الأساس: الإنسان وليدُ الطين.
ها نحن حتى اليوم، ننقّب في الطّين عن آثار غابرة
شكّل الرّب الإنسانَ من تراب الأرض، وَنَفث زفيرَه في خياشيمِه، فأضحت له روحٌ حيّة.
وَلقد خلقنا الإنسانَ من طين.
من الطين جُبِلنا أوّل مرة. من الطين تناهى إلى أسماعِنا أنّنا صُنِعنا. ثم نَسينا، أو تناسَينا، لنتَوِّج أنفسَنا بعدَها صُنّاعًا.
عند الظهيرة، يتنقّل رجل الطين بين الأعشاب الطويلة، يتعقّب صَوت النهر من قبل أن يلمحَه بِعَينَيْهِ الثاقبتين.
خَريرُ النهر بالنسبة له مجموعُ أصواتٍ تُنشد في حَفْل.
تموّجات تعبُر وجهَ الماءِ الرّاكد، تصطفّ فوقَه كَقواربَ حينًا وَتتدافعُ كَقاذفات أحيانًا.
طنين اليَعاسيب وَالنَّحل في دورانِها الدّائخ، جَوْقاتُ الزّيزان الرّتيبة وَالخنافس المائية. رفيف جوانح البعوض وَهو يغطّ على الجِلد وَيحفر في المسامّ. ترقُّبُ الطيور وَهي تحطّ بِصبرٍ لِدقائقَ طويلة، وَمن ثُم تقتحمُ الماءَ لِتقتنص ما تحته.
أشجارُ النخيلِ الشّاخصةُ وَهسيسُ العُشبِ تحتَ نباتِ البَردى.
همهمةُ الأبقار وَالحمير وَهي تلوّح بِذيولها، تَحِفّ بها الهواءَ كأنَّها فُرَش، بينما تمضغ النباتَ بِرتابة وَتؤدة.
رفرفة الملابس المُقدّدة على الحِبال، لِأطفالٍ يتصايحون وَأمّهات توصيهم بالابتعاد عن حافّة النهر، مسموعةٌ دومًا في مكانٍ ما. (سريانُ التماسيح المشؤوم وَهي تشقّ خلسةً مَهبِطَ النهر).
صريرُ العَنَفات المائية الأصمُّ وَالهدير المَوْءود لِمضخّة الريّ الحقليّة. الإيقاعُ الآلاتيُّ المجنون، الدائرُ بلا هوادة حَول البقعةِ ذاتِها. منظومةٌ صوتيةٌ لِبيئة كاملة، تَعلو وَتخفِت في وتيرة ارتجاليّة.
قد لا يوجدُ تناغمٌ بينَها، إلا أنَّها مُجتمعةً تمنحُ النهر صَوتَه وَصداه.
لقد مورِسَت حرفة صناعة الطوب منذ آلاف السنين. قوامُها الصلصال الذي تُبنى منه بيوتٌ مبرّدة طبيعيًا في فصل الصيف وَدافئة في فصل الشتاء، وَيرجع ذلك إلى التّكوين الخاصّ الذي يتكيّف بواسطته الطين مع الحرارة. يُصنَعُ الطوب من خليط من العناصر الطبيعية الأربعة. من خلط التراب والماء، تنتج مادة ليّنة مِطواع يتم تشكيلها يدويًا باستخدام أدواتٍ بدائية. ثم يجري بعدَها تجفيفُها في الهواء الطلق، حيث يتصلّب الطوب عندما يتبخر الماء عن سطحه. وَبمجرّد أن يثبت شكله، يُخبز في فرنٍ ويُترَك ليَحترق طيلة الليل. المواد النهائية التي تنبعث بعد احتراقه تشكّل مادة صلبة وَمتينة بِدرجة تكفي لإنشاء هياكلَ تحتفظ بكافة عناصرِها الطبيعية.
يقال إن حفنةً من الطين تحوي "معلوماتٍ أكثرَ شموليّةً ممّا قد يَحويهِ أيّ عنصرٍ قد يوجد فوق أسطح جميع الكواكبِ الأخرى. وَهكذا، فَإنّ كلّ لبنة تَحوي جميعَ عناصر الحياة التي قام على أساسِها عالمُنا المعروف".
الرجل ذو العينَيْن المموّهتَيْن، المنتصب وَسط الوحْل، يشقّ طريقه نَحْو النهر فيما الهواءُ لا يزالُ نسيمًا باردًا يتمَلمَلُ عند الفجر. يَحفُنُ بِراحتَيه الصلصال الرَّطب، وَيصفُّه على شاكلةِ تلالٍ صغيرة على شفا الحُفرةِ الطينيّة التي يتوسّطُها واقفًا.
بِجوارِه رَجُلان يشقّان جحافل الطين بمِعوَلَيْهِما، يفكّكان تجمعاتها وَيخلطانها مع الروث لإبقائها رَطِبة. وَآخر يَدلُق حفنةً ضخمة من الطين المقوّى بالرَّوث في قوالبَ خشبيّة، يَمسح حَوافَها إلى أن يَستويَ الطّينُ مع سطحِها. ثمّ يأخذ القوالبَ ويُفرغ منها الطوب الّليّن في الحقل الرمليِّ حتى يجفّ.
مِن على مقرُبَةٍ، يُسمَعُ إيقاعُ سَحْقِ الطين بِشكلٍ أوضح
مع بزوغ الشمس، يتكشّف اللونُ البنّي بكافة تدرُّجاتِه على سحنة الطوب المَصفوف، من الوحليّ الغنيّ الذي سبقَ عملية الصَّبّ، حتى الأحمرِ الصَّلصاليّ المُتناغم وَالعميق قبل التّجفيف بِقليل.
مصابيح ضخمة متوهجة تُنير القمين الذي يعمل الرجال داخله. ضوءها الأزرق يُغرِق المكان بظلال عميقة أشبه بالحلم. تبدو تحركات الرّجال رقيقة، شبه عائمة. أثر النعاس يتبدّى واضحا في الإيقاع المتباطئ لأجسامهم.
من بعيد، صوت المولّد المتقطّع يمدّ الأضواء بالشّعاع، هديره المختلج داخل الأرض يُقلِق نوم الديدان والمخلوقات الخبيئة. أسرابٌ من البعوض تدور حول المصابيح حتى لَتكاد تَحجِب أنوارَها.
مِن على مقرُبَةٍ، يُسمَعُ إيقاعُ سَحْقِ الطين بِشكلٍ أوضح: واحد، اثنان، ثلاثة -يَنزلِق الصّلصال في طبقاتِ القالب الثلاث-ومن ثم يرتطم بالقعر وَيتقوقع داخله ملامسًا بدقة شفا الحوافّ الخشبية. أصوات رطبة أرضية يُطلقها مَزْج التراب والماء بأكفّ بشرية تجبُل وَتصبّ وَتحتوي بِصمتٍ وأناة.
بعد شَيِّ الطوب وَجهوزيّته، يُنقَل بعيدًا لِتحويله إلى بيوت يَسكنُها البشر، تضمّ تحت أَسقُفِها أجسادًا، تُلملِم هَمسات، تُنصِتُ إلى حواراتٍ وَقهقهات، تتذوّق الدّموع وَتعيش الحبّ وَالأحزان أيضًا. جدرانُها الخرساء، أول ما يفتح حديثو الولادة أعيُنَهم عليه، وَهواؤها آخر ما يتنشّقُه العجائز قبل أن يُحمَلوا على الأكفِّ في طريقِ العَوْد الأبديّ إلى التراب.
* ترجمة عن الإنكليزية: مريم جنجلو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترجمة والكتابة وتبادل الأدوار
تعاونت الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو مع الفنان علي شرّي ودار دنقلة في كتابة النص العربي الأساسي المطوّل لـ"كتاب الطين" الخاص بالفنان، حيث تضافرت كتابة شرّي وترجمة جنجلو وتبادلا الأدوار. كما جمعها مؤخًرا تعاونٌ فني مع التشكيلي عبد القادري في معرضه "رفات آخر وردة حمراء على وجه الأرض"، حيث عرضت مجموعة من نصوصها باللغتين العربية وإلانكليزية، جنبًا إلى جنب مع الأعمال الفنية.