لم يكُن الفنّان المفاهيميُّ المُعاصر، ليون فيراري (1920 - 2013)، يُنجز عملاً فنّياً إلّا ويُثير جدلاً واسعاً، كثيراً ما كان يصل حدَّ الاحتجاج ضدّه والمطالبة بوقف عرضه. في عام 1965، وفي خضمّ حرب فيتنام، شاركَ في مسابقةٍ فنّية نظّمها "معهد توركواتو دي تيلا" في مقاطعة إنتري ريوس بالأرجنتين، بمجموعة من الأعمال التي تتناول موضوعات سياسية - دينية، مِن بينها تجهيزٌ بعنوان "الحضارة الغربية والمسيحية"، جَسّد فيه السيّدَ المسيح بالحجم الطبيعي مصلوباً ومعلَّقاً على طائرةٍ مقاتلة أميركية.
أثار العملُ غضباً في الأوساط السياسية والدينية في الأرجنتين. وكانَ مِن بين الذين انتقدوه بشدّة الكاردينالُ خورخي ماريو بيرغوليو (الذي سيُصبح في 2013 البابا فرانسيس؛ أوّلَ بابا للكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان مِن أميريكا اللاتينية). أَخبر القائمون على المعهدِ الرسّامَ والنحّات الأرجنتيني مِن أصلٍ إيطالي بأنَّ عليه إزالة تجهيزه إنْ كان يرغب في المشاركة في المسابقة، فاستجاب للطلب - على عكس ما سيتصرّف في وقتٍ لاحق من تجربته الفنّية. مع ذلك، ظلّت بقيّةُ الأعمال المعروضة في المعهد تُثيرُ انتقاداتٍ شديدةً سيردُّ عليها بعملٍ فنّي آخر يحمل عنوان "لوحةٌ مكتوبة".
بتلك الرسالة التي كتبها بخطّ يده، أذكى فيراري مُجدَّداً السجال حول الحضارة الغربية والمسيحية، وأكّد تمسُّكه بموقفه النقدي مِن الجميع: الديكتاتورية الأرجنتينية، والإمبريالية الغربية... والكنيسة، وهو الموقفُ الذي سيُكسبه مكانته المركزية في فنّ الاحتجاج السياسي بالأرجنتين، وسيُكلّفه، أيضاً، ثمناً باهظاً. ففي عام 1976، غادر، مع أُسرته، إلى ساو باولو في البرازيل هرباً من تهديدات النظام الديكتاتوري، تاركاً ابنَه، آرييل، الذي فضّل البقاء في موطنه، والذي سيصلُه خبرُ "العثور عليه ميْتاً" بعد سنتَين قضاهُما في المنفى الذي لن يعود منه إلّا عام 1991.
أعمالٌ تصوّر الشعب الذي يقاوم وتذكّر بجرائم الصهاينة
في منفاه البرازيلي، ابتكر فيراري، الذي أقام أوّلَ معارضه الفردية في ميلانو الإيطالية عام 1955، أشكالاً تعبيرية جديدة - التخطيطات والطباعة الحجرية والتصوير الفوتوغرافي وتأليف الكُتب أيضاً - سترفدُ تجربتَه الفنّية التي بدأها بالأعمال الخزفية، قبل أنْ يَنتقل إلى المنحوتات المشكَّلة مِن الخشب أو الجصّ أو الإسمنت، والتجهيزاتِ التي يُوظّف فيها الأسلاك والمواد البلاستيكية والسيراميك، وأعمالِ الكولاج التي تمزج بين الرسم والصورة وقصاصات الصحف، إلى جانب الكتابة اليدوية التي يبدو أنّها كانت طريقتَه في التواصُل مع (وتعليم) ابنته التي فقدَت سمعَها في سنّ مبكرة بسبب إصابتها بالتهاب السحايا. ظلّت الكتابةُ الخطّيةُ حاضرةً في أعماله إلى غاية رحيله، وكانت غيرَ مقروءةٍ في كثيرٍ من الأحيان؛ كما في عمله "رسالة إلى جنرال" (1963) الذي لخّص قناعته باستحالة التواصُل مع عسكريّ دكتاتور.
أصبحت الديكتاتورية في الأرجنتين مِن الماضي مع بداية الثمانينيات. وظلّ ليون فيراري فنّاناً ملتزماً؛ ضدّ الحروب والاحتلالات، ومع حقوق الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة أينما كانوا. وفي معرضٍ بعنوان "رسّامون من أجل فلسطين"، افتُتح في مقرّ السفارة الفلسطينية بـ بوينس آيرس في الثلاثين من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي ويُختتم بعد غد الأربعاء، يحضُر عملٌ له بعنوان "غزّة"، أنجزه في 2008 خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة، والذي استمرّ واحداً وعشرين يوماً (27 كانون الأوّل/ ديسمبر 2008 - 18 كانون الثاني/ يناير 2009).
بتقنية الكولاجُ يجمع العمل، الذي شاركَت به "مؤسّسة فيراري" (تأسّست في العام نفسه)، قصاصات جرائد صدرت باللغة الإسبانية تضمُّ عناوين ومقالاتٍ عن جرائم الكيان الصهيوني في فلسطين، وصُوَراً لعددٍ من "أبطالها" مِن الساسة الإسرائيليّين والأميركيّين، وأُخرى لصُوَر الحرب وضحاياها: أطفالٌ قُصفت منازلُهم، وجثامينُ شهداء، ومواطنين يُشيّعون ضحاياهُم. يتوزّعُ كلُّ ذلك على خلفيةٍ من الورق وضَع عليها الفنان كتاباته بخطّ يده باللونَين الأسود والأحمر القاني المنساب إلى أسفل كقطرات دم. يُمكنُ قراءة عباراتِ الإدانةِ الصريحةِ لـ"إسرائيل" في بعضٍ من تلك الأسطُر، بينما يستعصي ذلك في بعضها الآخر الذي يبدو أشبه بأسلاكٍ شائكة.
إضافةً إلى ليون فيراري، يحضُر في المعرض عشراتٌ مِن الفنّانين التشكيليّين بأعمالٍ تُعبّر عن تضامُنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانتهم الاحتلالَ الصهيوني المستمرّ منذُ أكثر من سبعة عقود. مِن بين هؤلاء: لويس فيليبي نوي (1933) أحدِ أبرز فنّاني الأرجنتين الأحياء، والذي يُشارك بلوحةٍ عنوانُها "فلسطين حرّة". يُجسّد العملُ مظاهرةً لفلسطينيّين يحملون علَم بلادهم ولافتاتٍ رُسمت عليها مفاتيحُ وعيونٌ وخطوطٌ تُحيل إلى الكوفية الفلسطينية، وكُتبَت عليها كلماتٌ تستعصي على القراءة، تتصدّرُها عبارةُ "حرّة فلسطين" باللغة العربية. كلُّ ما في اللوحةِ مرسومٌ بالأبيض والأسود، باستثناء العلم الفلسطيني الذي يتّخذُ مكاناً مركزياً فيها بألوانه الحقيقية.
فنّانٌ بارزٌ آخر يحضر في المعرض هو ريكاردو لونغيني (1949) الذي يُشارك بعملٍ عنوانُه "صبرا وشاتيلا" (2008)، وهو تجهيزٌ مِن الألومينيوم يتّخذ شكلاً مربَّعاً بتجويفٍ ينتهي بصورةٍ لآلة حرب، ينسابُ منها صدأٌ يمرُّ إلى الأسفل بعبارة "1982 صبرا وشاتيلا".
يشارك في المعرض أيضاً التشكيلي الأرجنتيني، أدولفو بيريز إسكيفيل (1931) الحائز "جائزةَ نوبل للسلام" عام 1980، والذي يُعرَض له عملان جديدان عن فلسطين، وأيضاً الشاعرُ فيسنتي زيتو ليما (1939). ومِن الأعمال المعروضة الأُخرى: "المفتاح" لـ سانتياغو بلازا، و"فلسطين موجودةٌ وتقاوِم" لـ لويس مورادو، و"S/T" لـ أوسكار سواريز، و"هي فلسطين وستبقى" لـ أليخاندرو فاكوس فيرغارا، و"انتفاضة" لـ مونسترا جوزيفينا ورومينا داندريا، و"المظهر" لـ تاينا ماسترويانو.