فلنقتُل التواصل

20 يوليو 2024
(من سلسلة "زفتلاند" لهاني زعرب/ فلسطين)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الحياة الثقافية تتطلب سجالات ونقاشات حية، بينما المؤتمرات التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي غالباً ما تكون غير مثمرة وتكرس "ديمقراطية الكلام" السطحية.
- مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى منصات للضجيج وزيادة الأصوات دون تنوع حقيقي، مما أدى إلى تقزيم النقاشات إلى تعليقات سطحية.
- الحل يكمن في إعادة النقاشات إلى الساحات والمنابر الورقية، حيث يمكن الرد على المقال بمقال، والكتاب بكتاب، مما يعيد التواصل الفعلي ويغني من جوعٍ ثقافي.

تنتعش الحياة الثقافية بالسجالات وبالنقاشات لا بالتواصُل. كم من مؤتمر وندوة ومحاضرة أُقيمت وانتهت في أرضها من دون أثر يُذكَر. نقرأ ملخّصاً خلال دقائق مع أمل ووعد من المشاركين الباقين بقراءة الأوراق كاملة. قد تُقرأ الأوراق وقد لا تُقرأ، بيد أنّ المهمّ في عملية القراءة ليس تقليب الصفحات، بل نتاجاتها. ما نتائج تلك المؤتمرات والندوات غير تفريخ ندوات ومؤتمرات أخرى تُستعاد (تُجتَرّ؟) فيها اللغة ذاتها، والمضامين ذاتها، والوجوه ذاتها، والتثاؤبات ذاتها، إلّا لو كان الله قد أنهى عُمر فلان أو فلان من المواظبين الدائمين على بوفيهات المؤتمرات المفتوحة. البوفيهات هي المفتوحة هنا لا المؤتمرات، لأنّ هذه وُلدت مغلقة وستموت مغلقة.

ظنّ كثيرون منّا أن ولادة مواقع التواصُل ستُفضي إلى تواصُل من نوع آخر يوازي الحضور الجسديّ. تواصُل بلا تكاليف ولا وجع قلب وتثاؤب. ولكن ما لم ندركه هو أنّ مواقع التواصُل - هي أيضاً - وُلدت مغلقة وتموت مغلقة. فالضجيج ليس إلّا زيادة أصوات لا تنوُّع أصوات وإثراء وغنى. وفي واقع الحال، كانت الكارثة اعتمادنا على وسائل التواصل وسيلة أُخرى للنقاشات والسجالات، بدأت موازية للسجالات الفعلية، وسرعان ما حلّت محلّها إلى درجة مرعبة.

نفتح حساباتنا (هل من علاقة هنا بين مراكمة المال ومراكمة اللايكات؟) فنفرح لـ"تفاعُل" المتابعين، من دون أن نُدرك أن هذا التفاعل وهميّ، بالضبط لأنّ المتلقّي تحوَّل إلى متابِع، ومن ثمّ انتفض على موقعه لا ليكسر الدائرة الجهنّمية من التفاعُل الكاذب، بل ليُنصّب نفسه صاحبَ رأي هو الآخر، فمواقع التواصل كرّست "ديمقراطية الكلام"، بحيث غرقنا في مستنقعات لا حصر لها من ضجيج لا ينفع. وتضاعفت الكارثة حين تحوّل المثقّفون إلى مؤثّرين تُقاس أهمّيتهم بعدد متابعيهم والإعجابات. قد يقول قائل: "ولكنّ إمكانية التعليق موجودة".

هذا صحيح، ولكن ما التعليقات التي نجدها؟ تعليقات موجزة تطبطب على كتف المؤثّر العظيم العبقريّ، أو تشتم أهله الذين أنجبوه كي ينظّر. أمّا التعليقات التي تهمّنا هنا فهي التعليقات الأطول التي يمنح المُعلِّق فيها نفسه حرية الاستطراد. منها ما هو تنظيرٌ فارغ فراغ التنظير الأصل، ومنها ما هو مفيد حقّاً، غير أنّ الإفادة عابرة تنتهي بانتهاء زمن "البوست".

لا يُردّ على السجال إلا بسجال يكافئه ويوازيه ويثريه

ما فعلناه في حقيقة الأمر هو نسف السجالات والنقاشات وتقزيمها إلى محض تعليقات في مواقع التواصُل التي نظنّ واهمين أنّها فتحت باباً آخر أكثر تطوُّراً للنقاش، في حين أنّها ألغت جوهر النقاش. فالنقاشات والسجالات تولد وتزدهر في الساحات وفي المنابر الورقية بصرف النظر عن أكذوبة عصر الشاشة والسرعة. إذ إنّ تطوّر مواقع التواصُل يخفّض سقوف السجال، ويحيلها إلى ثرثرات لا معنى لها، برغم أهمّية الطروحات أحياناً. بل لعلّ أسوأ ما في الأمر هو أن أهمّ الطروحات باتت سطوراً افتراضية لا سبيل إلى البناء عليها إلّا بسطور افتراضية أُخرى، بما أنّنا ألغينا المجلّات والجرائد وحوّلنا المؤتمرات إلى مطاعم وحفلات سمر.

لا يُرَدّ على المقال إلّا بمقال، ولا يُرَدّ على الكتاب إلا بكتاب، ولا يُردّ على السجال إلا بسجال يكافئه ويوازيه ويثريه. ولا أعتقد أنّ ثمّة حلّاً لهذه الكارثة التي باتت تخنقنا يومياً إلّا بإعادة مواقع التواصُل إلى جوهرها الفعلي في أن تكون وسيلة للمرحبا وألف مبروك، لا أن نمسخ الثقافة والسجالات بحجّة تحوُّل الوسائل. لا سبيل إلى استعادة السجال إلّا بقتل التواصل، أي بإيقاف إمكانية التعليق في الصفحات الافتراضية على أمل انتقال التعليقات إلى صفحات ملموسة محسوسة كي لا تتحوّل المحيطات إلى مستنقعات. ولعلّ قتل التواصُل الافتراضي سيُفضي في نهاية المطاف إلى بداية تواصل فعليّ يُسمِن ويُغْني من جوعٍ لا يمكن لكلّ بوفيهات المؤتمرات ولايكات الصفحات أن تخفّفه.


* كاتب ومترجم من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون