فكرة الترجمة

08 مايو 2022
تيسير البطنيجي/ فلسطين
+ الخط -

تشترك كثير من الثقافات في بعض الأمثال الشعبية، المتَداولة بين مواطنيها، والمُعبِّرة عن رؤية وجودية، وموقف أخلاقي، وخبرة بالحياة، وحسّ جمالي... إلخ؛ ولعلّ من أشهرها المثل الذي يقول: "قل لي من تُصاحبْ أقلْ لكَ مَن تكون!".

ومن العبارات الشهيرة ما ترتقي لكثرة تداوُلها إلى مستوى المَثَل السائر، ولو أنّ سياقها عادة ما يكون مخالفاً لما يؤُول إليه مضمونها، تلك العبارة الشهيرة التي سطَّرها الدّوقُ بُوفُونْ، جورج لويس لوكليرك، التي تقول: "الأسلوب هو الإنسان"، الذي يُفيد أنّ الأسلوب، في تجلّياته المتنوِّعة؛ من تصرُّف ولباس وكتابة وغيرها، يكون دالّاً على شخصيتنا المتفرِّدة، لكونه يَرسم لنا صورة تميِّزنا عن سوانا.

ويبدو لي أنّ كلا المَثَليْن يتكاملان، بل إنّهما يجدان تعبيراً صريحاً عنهما في تلك العبارة التي صاغها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: "قل لي فِكرتَك عن الترجمة أقلْ لك من تكون"، التي أوردها الفرنسي جاك دريدا في كتابه "في الروح: هايدغر والسؤال".

الترجمة إمّا أن تكون ملتزمة أو هي مجرّد دسّ وتدليس

ولا يخفى أن هايدغر يُسائل مخاطَبا في مستواه على الأقل، وربّما يكون هذا المخاطَب من مُزاولي الترجمة أو منظِّريها، لكن الأهمّ عندي هو الحضور القوي واللافت لقضيّة الترجمة في فلسفة هايدغر، من خلال القولة الآنفة، وهو أمر لا غرابة فيه طالما أنه كان يصل باستمرار بين الأخيرة والهيرمينوطيقا (التأويلية)، شأنه شأن دريدا، بل إنه كان يُعرِّف الفلسفة بصفتها تأويلية، ومعلوم أنّ المشتغلين بالتأويليات تواضعوا على تعريفها بكونها قولاً وتفسيراً وترجمة، وبذلك نجد تبريراً معقولاً لاهتمام هايدغر بالترجمة، ولتحريره تلك القولة.

ويتضح لنا أن هايدغر يشترط على مخاطَبه، في حال اطّلاعِ الأخيرِ للأوّلِ على فِكرتِه عن الترجمة، أنْ يُكافئه بأن يُعرِّفه إلى حقيقةِ شخصِه، فيكون بذلك قد صاغ قولته قياسا على المثل "قل لي مَنْ تُصاحبْ أقلْ لكَ مَن تكون!"، لكنْ مع فارق لا يخفى، وهو أنْ ننتبه إلى أنَّ المصاحَبة لشخص آخَرَ هي التي تكون محدِّداً للشَّخص المُصاحِب ولكينونته، لتأثُّرها بفاعل خارجي، بينما في حال الترجمة، فالواضح أن التأثّير الخارجي ينتفي فيها تماماً، وأنّ الذي يُحدِّد الشخص وكينونتَه، بحسب هايدغر، هو ما يبنيه الشخصُ نفسُه لِذاته باجتهاده وكدِّه من تصوُّرات عن الترجمة من حيث مهمَّتها ومواصَفاتها وقيمتُها.

هكذا يُمكن للأفعال أن تكون دالّة على حقيقة الشخص، كما هو سائد عند كثيرين، فالوقائع مكتفية بذاتها، ولا تحتاج إلى دليل أكثر منها، ولكن بخصوص الترجمة، وَفق هايدغر، فإن ما يكشف عن حقيقة الشخص هو فكرتُه عن مهمّة الترجمة لديه، وكذلك اختياراتُه الترجمية، والصيغة التي يُترجِم بها النصوص التي يختارُها أو تُسنَد إليه ترجمتُها، وغيرها من الأمور.

لا غرو أنّ من يُراهن على الترجمة، ويُعرِّف حركتها بِصِفتها فرصةً لتلقيح ثقافته بالغريب، ويضع خطّة لنشر كُتب التنوير، رغبةً منه في إدخال مجتمعِه عصر الحداثة بترسيخ قِيَمها في تربة وطنه، ودَفْعاً بمجتمعه إلى اللحاق بركب المجتمعات المتقدِّمة، هو شخص يمتلك فكرةً عن الترجمة يُمكن، من منظور هايدغر، أنْ تدُلَّ على حقيقتِه بكونه شخصاً حداثِيّاً ومتنوِّراً ومتفتّحاً، مثلاً.

والجليّ أن المترجِم الذي يتحرّى اختيار أهمّ المؤلَّفات، التي استنهضت هِمَم الأمم الأخرى، وحرَّكت عجلة حضارتها، ويسهر على تيسيرها لأبناء بلده عبر ترجمتها لهم، لكي يواكبوا المهم والجديد في الفكر والعلم والفن، ويُشجِّع على إقبالهم عليها، هو شخص ذو فكرة إيجابية عن الترجمة، يرى فيها فِعلا نضالياً، والتزاماً اجتماعياً.

والأكيد أنّ من يتصرَّف في نصوص الآخرين، فيقوِّلها غير ما يفترض أن يكون مؤلِّفوها قد أرادوه لها، ويخرجها من حيثُ شكلها خلافا لما توخَّوه منها، بل ويتدخَّل في قلب حقائق فيها وتحريف معطيات، هو شخص يُشوِّه أعمال الآخَرين، ويتلاعب بحقوقهم الفكرية، وأن له فكرة عن الترجمة بصفتها حقّا للتصرُّف في مُنجَز الغير وتملُّكه، دون مراعاة لحقوقهم عليه، فيَكونُ تصورُّه عن الترجمة إنْ لم يكن فرصةً للتسلط، وممارسةً للتدليس والدَّس، فهو إفصاحٌ عن استهانة بجهد الآخرين.

لهذا يتهيّأ لي أن هايدغر لم يأت عبثاً بقولته أعلاه، التي أرى فيها تجسيداً للقاعدة الأصولية "الحكم على الشيء فرعٌ من تصوُّره".


* أكاديمي ومترجم من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون