كان فاروق وادي (1949 - 2022) واحدًا من أمهر كتّاب النثر العربي في ثقافة الديمقراطية. تمثّل سيرته الذاتية (وهي سيرة كاتبٍ ومناضل، ذات تماسكٍ مثير للإعجاب منذ البدء وحتى المنتهى، وتشكّل رابطًا أساسيًا ما بينه وبين مدوّنة الأدب والحاضر)، مثالًا قليلًا جدًّا على التوحيد التدريجي للنظام الأدبيّ في العربية، الذي كان وما يزال حوارًا متطلّبًا مع تقاليده الخاصة ومع الهمّ الكوني. وفي الوقت نفسه، قام بإثراء هذا النظام بعلاقةٍ واعية مع الحداثة من خلال الأسلوب والتجريب.
ولكن كان أفضل ما يميّزه عندي هو أنه "كلاسيكيُّ ما بعد الحداثة". وهذا شرفٌ دقيق كما أعتقد لكاتبٍ معاصر.
كتَب فاروق القصة القصيرة باكرًا وهو طالب كما أخبرني. ومنذ تلك اللحظة، عمِل بلا كللٍ، حتى اليوم الأخير، ليكرّس نفسه للأدب.
لم يكن كاتبًا محترفًا. لقد كان محترفًا أدبيًا بأرقى معاني الكلمة وأكثرها تطلّبًا.
كان محترفًا أدبيًا بأرقى معاني الكلمة وأكثرها تطلُّبًا
مارس نقدًا ممتازًا حتى اليوم الأخير أيضًا، وإن لم يُتِح له الوقت ليكتبَ ما كان يقوله شفاهةً لمُجالسيه في كتبٍ - مارسه بالفعل وكان يبدو لمن يهمّه الأمر، مهمومًا تمامًا بالمشهد النقدي، وبما يؤسّسه ويورّثه: الإنتاجُ الأدبي، وبخاصةٍ فنّ الرواية.
كُتبه الثمانية عشر، لم تأخذ حقّها في النقد، كون هذا الأخير غائب عن الساحة ما ينيف عن ثلاثة عقود من الزمن.
أما على الصعيد الشخصي، ولتسمح لي روحه بالحديث عن هذا الجانب الذي لا ينفصل أبدًا عن جانبه كروائي وأديب ومفكّر ومثقّف، فأظنّه كان واحداً من أنبل المثقّفين اليساريين، ومن أنقى وأنظف من قابلتهم في حياتي قاطبة.
كانت بيننا مراسلات بالبريد الإلكتروني ومكالمات، وكان هو دومًا من يبادر بها، كصديق وفيّ لمن يصادقه. وفي برشلونة الزاهرة عشتُ معه ومع زوجته السيدة سناء أسبوعًا، كشَف لي عن نُبل الرجل المتأصّل فيه، جِبلّة وثقافةً.
تفاصيل كثيرة، آمل أن يأتي يوم وأكتبها، عن هذا المبدع الذي كان خادماً عند سيديْن فقط؛ بلده: فلسطين، وشغفه: الإبداع. وما سواهما فهو نافل، مهما علا واغتنى وتسلّط.
فاروق الذي رحَل قبل الأوان في لشبونة، حيث تعيش ابنته الدكتورة اللامعة شهد، والتي فُصلت من عملها كدبلوماسية ومترجمة لسفارة السلطة عن البرتغالية، نتيجة مواقفها الوطنية وتعاطفها مع المظلومين.
فاروق الذي حُزن عليه بإجماع نادر من قِبل كلّ من قرأ له أو عرفه شخصيًّا، كونه يشكّل مكانًا أساسيًا في الفصل الخاص بالنثر الفلسطيني والعربي في نصف القرن الماضي، وكونه فلسطينيًّا ذا موقفٍ ثابت من جرح بلده الفاغر، وضدّ من يسيء لهذا الجرح، بأيّ شكل كان، بغضّ النظر عمّا يكونون وفي أيّ منصب.
فاروق وادي يا صديقي: لقد تلقّيتُ خبر رحيلك، بعد حدوثه بأيام، من لدن ابني الأكبر، وأنا في "مصحّة سينت فرانسيسكو كلينيك" المقفلة والمعزولة، في أقصى الغرب البلجيكي.
لا غرو أن الأمر برمّته كان مفارقة.
إلى لقاء يا أبا سيف.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا