عرفت مصر نهضة كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع تطوّر وسائل المواصلات (وخاصّة بعد افتتاح قناة السويس)، حيث كانت الدولة الثانية في العالم بعد إنكلترا التي عرفت سكة الحديد، كما شملت النهضة الزراعة والصناعة والتجارة، فنشأت مدن جديدة (بور سعيد والإسماعيلية) وتطوّرت مدن كالإسكندرية (بعد انحسار دمياط)، لتصبح مراكز كوسموبوليتية في شرق المتوسّط. ويبدو أن هذا التطوّر السريع خلق فرص استثمار وفرص عمل لليد العاملة ذات الخبرة، فتدفّق على مصر، خلال قرن من الزمن، مئات الألوف من دول المتوسّط، وبالتحديد من إيطاليا واليونان وألبانيا وتركيا وبلاد الشام، التي تشكّلت فيها أكبر الجاليات.
وكنتُ خلال عملي على كتاب "الجالية الخفية" (القاهرة، 2018)، الذي يتناول "ألبانَ مصر"، قد تعرّفتُ عن قرب على الجاليات الأخرى، وخاصّة "شوام مصر" الذين حظوا باهتمام أكبر في القرن العشرين نظراً للدور المتعدّد الذي قاموا به في الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية. ففي بداية القرن العشرين، نشر إلياس زخورة في 1927 كتابه "السوريون في مصر"، بينما نشر في العام التالي بولس قرألي "السوريون في مصر"، أي حين كان "الشوام" في ذروة وجودهم ونشاطهم. بينما نجد في نهايات القرن (1986) الكتاب المرجعي للأكاديمي مسعود ضاهر "الهجرة اللبنانية إلى مصر (هجرة الشوام)"، على حين أنه لدينا في بداية هذا القرن ثلاثة كتب أخرى: "الشوام في مصر" للسيد عبد المقصود (القاهرة، 2003) و"هجرة الشوام إلى مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين" لماهر محمد درويش (نابلس، 2003) و"ظلال الأرز في وادي النيل" لفارس يواكيم (2009).
ومن هنا يحمل الكتاب الجديد لفارس يواكيم، "الأسراب الشامية في السماء المصرية" (دار "ميريت"، القاهرة، 2022)، الكثير من التوقّعات عمّا يتضمّنه من جديد بعد كلّ هذه المؤلفات. ومن الواضح أوّلاً أن هذا التاريخ هو جزء من التراث العائلي لأسرة يواكيم، ولذلك حرص الكاتب اللبناني، المولود في الإسكندرية، على أن يكون وفيّاً لهذا التراث. ومن ناحية أخرى، نجد أن المؤلف قد استقصى وأضاف إلى هذا الكتاب الجديد ما كان ناقصاً في كتابه الأوّل في 2009، وجعله عمليّاً أكثر في تقسيمه إلى قسمين متساويين تقريباً: الجزء الأوّل الذي استقصى فيه مجالات وأنشطة الوجود الشامي في مصر، والجزء الثاني الذي جعله معجماً لأهمّ الشخصيات الشامية التي تركت بصماتها في مختلف المجالات.
استفاد الشوام من حرية تعبير أكبر في مصر بنهاية القرن 19
وربما يكمن هنا الفرق بين الجزأين، لأنّ المؤلّف أوضح في مقدمته أنه سيخصّص كتابه لدور الشوام في النهضة الثقافية بمصر، بينما نرى في الجزء الثاني شخصيات متعدّدة الأدوار كان لا بدّ من التعريف بها، وهو ما يمهّد لمعجم أوسع عن الشخصيات الشامية التي امتدّ وجودها على عدّة أجيال حتى تمصّرت بعدها تماماً. ومن هنا وجد المؤلف حاجةً منهجية لقصر مرجعية "الشوام" على "برّ الشام"، أي سورية ولبنان وفلسطين، مستبعداً الداخل أو مَن كان من أصل عراقي.
في مقدّمة كتابه، أعاد المؤلّف التذكير بظروف الهجرة من بلاد الشام في النصف الثاني للقرن التاسع عشر (سياسية ودينية واقتصادية) التي جعلت الثقَل يميل للطرف المسيحي العارف باللّغات الأجنبية (التي كانت مرغوبة للترجمة بين العربية وبينها) والحامل لخبرات جديدة في السياسة والصحافة والمسرح وغيرها من الحقول.
ومع ذلك، فإن المقارنات التي يعقدها المؤلّف بين الأوضاع في بلاد الشام تحت الحكم العثماني المباشر، وبين الأوضاع في مصر الخديوية التي كانت خارج الحكم العثماني المباشر، تؤشّر إلى عامل حاسم: وجود سقف أعلى لحرّية التعبير التي كانت الأساس لنشاط المعارضة السياسية وتأسيس الأحزاب الجديدة وظهور عشرات الصحف الجديدة وتطوّر المسرح والسينما لاحقاً، حتى أصبحت مصر عاصمةَ الصحافة والفنّ في النصف الأول للقرن العشرين، قبل أن تتخلّى للبنان عن الصحافة في النصف الثاني للقرن العشرين بعد "المجزرة" التي لحقت بالصحافة السورية في 1958 و1963 والأدلجة التي لحقت بالصحافة المصرية بعد 1952.
وفي ما يتعلّق ببدايات الصحافة العربية التي أخذ يُصدرها الأفراد، بعد تلك التي أصدرتها الحكومات، يورد المؤلّف أن إسطنبول كانت هي الساحة التي احتضنت الصحف الأولى في الربع الثالث للقرن التاسع عشر، ولكنّ سقف الحرية هو الذي شجّع الشوام على إصدار الصحف الأولى بالعربية في الإسكندرية والقاهرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، التي كان منها "الأهرام" في 1875، و"مصر" في 1877، و"حديقة الأخبار" في 1877، و"مرآة الشرق" في 1879، وغيرها. وضمن هذا السقف المفتوح، لا يفوت المؤلّف أن يلاحظ أنه حتى هذه الصحف التي أصدرها الشوام كانت مختلفة في توجّهاتها السياسية، حيث كانت هناك صحف معارضة لإسطنبول وأُخرى مؤيّدة للدولة العثمانية، إلى أن صدرت "المقطّم" سنةَ 1889 لتمثل الاتّجاه المؤيّد لإنكلترا أيضاً.
وبالإضافة إلى الصحف، كان هناك الإسهام المميّز في المجلّات، ويكفي أن نذكر منها "الهلال" التي أسّسها جرجي زيدان (المولود في بيروت) عام 1892 وتحوّلت إلى مؤسّسة معروفة لا تزال تضخّ إصداراتها، وكذلك مجلّة "روز اليوسف" التي أصدرتها فاطمة اليوسف (مولودة في طرابلس لبنان) في عام 1925. وفي الحقيقة، إن هذا العام يؤشّر إلى مرحلة جديدة بعد أن أُعلن استقلال مصر في عام 1922 وصدر أوّل دستور في 1923، الذي نصّت فيه المادة 15 على أن "الصحافة حرّة في حدود القانون"، ليتيح هذا المجال تدفّق الصحف الحزبية والسياسية التي ميّزت فترة ما بين الحربين.
ولكنْ مع "الحركة المباركة" التي قام بها الجيش في 1952، بدأ إغلاق الصحف بـ"المقطّم" العريقة وغيرها، وبدأت معها الهجرة المعاكسة للشوام إلى لبنان، الذي سيتصدّر الساحة العربية في مجال الصحافة، وخاصّةً بعد إغلاق عشرات الصحف السورية بين عامَيْ 1958 و1963.
التأريخ لدور الشوام في مصر هو تأريخ لنهضة مصر نفسها
صحيحٌ أن المؤلّف التزم بما قاله عن قصر كتابه على "النهضة الفكرية التي عرفتها مصر" خلال القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، إلّا أن مادّة الكتاب تغطّي أيضاً بدايات المسرح، بدءاً من ترحيب "الأهرام"، في عام 1876، بوصول سليم نقاش إلى الاسكندرية، ثم قدوم يوسف خياط وأبو خليل القباني وجورج أبيض وفتوح نشاطي الذي يسميه "آخر رعيل الشوام" الذي لم يشمل التمثيل فقط بل تأليف النصوص وترجمة مسرحيات وإعدادها وإخراجها، ممّا جعل تلك المرحلة ــ سواء في المسرح أو السينما ــ حافلة بعشرات الأسماء من الممثّلين والمترجمين والمخرجين والمنتجين الشوام الذين سيصبحون نجوماً في تاريخ الفن (آسيا داغر، وماري منيب، وعبد السلام النابلسي، وغيرهم).
من الصعب هنا استعراض ما في الكتاب من إسهامات للشوام في "النهضة الثقافية في مصر" خلال قرنٍ ونيف، ولكنْ يمكن القول ببساطة إن التأريخ لدور الشوام في مصر هو تأريخ لـ"النهضة الثقافية في مصر" خلال القرن المذكور، حتى أنه إذا أسقطنا أسماء الشوام، يصبح من الصعب أن نتخيّل "النهضة الثقافية في مصر"، التي أشعّت معهم خارج مصر أيضاً. ومن هنا يفيد هذا الكتاب في استعراض تبادُل الأدوار الثقافية في المنطقة حسب التقلّبات السياسية فيها.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري