غياب نادر فرجاني.. انشغالٌ بإمكانيات النهضة والتحرّر

06 يناير 2025
نادر فرجاني (1944 - 2024)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نادر فرجاني، عالم اجتماع واقتصاد مصري، رحل عن عمر 80 عاماً، وقدم إسهامات بارزة في مجالات الديموغرافيا والتنمية والهجرة، حيث عمل مستشاراً للعديد من المنظمات وكتب مؤلفات هامة.
- تميزت أعماله بتحليل قضايا الهجرة والتنمية من منظور الاقتصاد السياسي، مثل كتاب "الهجرة إلى النفط" و"سعياً وراء الرزق"، حيث درس تأثير الهجرة على التنمية في الوطن العربي.
- تناول قضايا التنمية والحكم التسلطي بزاوية نقدية، منتقداً السياسات الاقتصادية في مصر، وظل معارضاً للاستبداد حتى وفاته.

عن ثمانين عاماً، رحل في القاهرة عالم الاجتماع والاقتصادي المصري نادر فرجاني في اليوم الأخير من عام 2024، بعد مسيرة بحثية معرفية طويلة بدأت منذ إجازته من كلّية الاقتصاد والعلوم السياسية في "جامعة القاهرة" عام 1963، ثمّ نيله، عام 1970، الدكتوراه من "جامعة نورث كارولينا" الأميركية، مروراً بالمواقع المهنية التي شغلها مستشاراً للعديد من المنظّمات العربية والدولية، مثل "معهد التخطيط القومي"، و"الجامعة الأميركية" في القاهرة، فضلاً عن مؤلّفاته التي تناولت موضوعات شتى ذات صلة بـ الديموغرافيا والتنمية المجتمعية والهجرة وأوضاع العمالة.

لم تكن انشغالات فرجاني محدودة ضمن النظرة القُطرية، فقد دفعت به همومه العربية، منذ البدايات، للتفكير في أحوال الأمّة. وضمن هذا الإطار، قدّم عام 1984 مَعلمَته "الهجرة إلى النفط: أبعادٌ للعمل في البلدان النفطية وأثرها على التنمية في الوطن العربي"، التي تُشكّل التقاطة سوسيولوجية مبكّرة في بابها لماهية الهجرة في البلدان العربية، والعوامل التي أثّرت فيها، والدور الذي لعبته في إعادة تخطيط البنى الاجتماعية، انطلاقاً من مقولة راجت، إلى حدّ ما، في الأوساط الأكاديمية مفادُها أنّ القرن العشرين هو قرن الهجرات العُمّالية بامتياز. لكن ترجمة هذه المقولة عربياً جاءت على قاعدة "الطفرة النفطية" في منطقة الخليج، والذي تقاطع وأثّر في الأنماط العمرانية الخليجية التي ما زلنا نشهد تحوّلاتها إلى اليوم.

قدّم مقاربات معمّقة لظواهر الهجرة والتنمية والحُكم التسلّطي

حقّق الكتاب المذكور سبقاً من حيث وضعه اليد على أبرز ملامح تلك الفترة التي تميّزت بتدفُّق أعداد كبيرة من العمّال وذويهم على البلدان العربية النفطية للنهوض بأعباء النشاط الاجتماعي الاقتصادي، والتي بلغت معدّلات مرتفعة نتيجة استخدام عائدات النفط في مشروعات التحديث في تلك البلدان، وخصوصاً في النصف الثاني من السبعينيات، حيث لم يكن ممكناً الاعتماد كلّياً على القوى العاملة المواطنة فيها. وتنبع أهمّية الكتاب، أيضاً، من مقاربته ظاهرة "الهجرة النفطية" من زاوية الاقتصاد السياسي، متتبّعاً الفوارق الاجتماعية بين بلدان المنشأ ثمّ بلدان الاستقبال، وفي كلتا الحالتين، اعتمد المؤلّف أسلوب "دراسة الحالة"، مراعياً التمايزات والمتغيّرات الجوهرية في عملية الهجرة، قبل التعرّض لمناقشة عامّة نسبياً لكلّ من بلدان المنشأ والاستقبال، قبل أن يختتم بتناول بعض الأبعاد القومية لظاهرة الهجرة تجاه منابع النفط.

وفي السياق نفسه، أتى كتابه "سعياً وراء الرزق: دراسة ميدانية عن هجرة المصريّين للعمل في الأقطار العربية" (1988)، والذي وسّع فيه عدسته لتشمل من حيث بُلدان الاستقبال حالات أُخرى خارج الخليج العربي، حيث اعتمد مسحاً ميدانياً متشعّباً معدّاً بأسلوبٍ علمي مضبوط لدراسة الظروف الموضوعية لواقع الهجرة على المستوى المجتمعي الإقليمي والعربي، ليصل إلى وضع توجّهات عامّة لها علاقة بالهجرة والعمل في أقطار الوطن العربي.

كانت التنمية من الظواهر الاجتماعية الأُخرى التي انشغل بها الراحل. وهنا يستوقفنا كتابه "احتمالات النهضة في الوطن العربي بين تقرير التنمية الإنسانية العربية ومشروع الشرق الأوسط الكبير"، حيث رأى فرجاني فيه أنّ تقرير "التنمية الإنسانية العربية" لعام 2002 قدّم معالجة أوّلية لواقع الوطن العربي في منظور التنمية الإنسانية، مشخّصاً ثلاثة نواقص جوهرية تعوق إقامة التنمية الإنسانية في الوطن العربي، هي النواقص في اكتساب المعرفة، وفي الحرّية والحُكم الصالح، وفي تمكين النساء، مؤكّداً ضرورة الحاجة إلى التعمّق في معالجة هذه النواقص تقويةً للإسهام في بناء النهضة العربية، من خلال النقد الذاتي والإبداع المجتمعي.

وقبل ذلك، قرأ فرجاني التنمية من زاوية أُخرى يمكن تسميتها "زاوية السَّلب"، بمعنى أنّ انتفاء التنمية يضعنا أمام مفهوم آخر نقيض لها هو "الهدر"، وهذا ما عالجه في كتابين؛ الأوّل هو "هدر الإمكانية: بحث في مدى تقدم الشعب العربي نحو غاياته" (2001)، والذي حاول فيه تبيان انعكاسات الماضي والحاضر على مستقبل الوطن العربي في دراسة تاريخية تحليلية تسعى إلى توثيق الاتجاهات التاريخية وتطلّ كذلك على أبعاد المستقبل، والثاني هو "هدر الإنسانية: الحكم التسلطي يهدر الحرية والكرامة الإنسانية ويؤجّج الاحتجاج الشعبي توقاً للحرية والعدل في مصر" (2009)، وفيه ناقش قضايا حقوق الإنسان والحرّيات العامّة في مصر، منتقداً الحُكم التسلّطي وقمع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرّية والعدالة. وكما هو ملاحَظ، فقد عالج ظاهرة التنمية ضمن المستويين العربي والمصري.

بهذا، يُمكن القول إنّ كتابات الراحل انشغلت بهموم الثورة المصرية قبل وقوعها، حيث استشرف صوب أيّ هاوية يقود الحُكم التسلّطي البلاد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى كتابه "التنفّس تحت الماء: التوق للثورة تحت الحكم التسلّطي: دور الثقافات المعلوماتية والاتصالات الحديثة في التغيير والإصلاح"، والذي تضمّن مجموعة مقالات نشرها في صحيفتَي "البديل" و"الدستور" بين عامي 2007 و2010، ووثّق فيها مظالم زمن نظام حسني مبارك وفساده واستبداده، وتأمّل دور المعلوماتية في المدّ التحرّري المعرفي العربي الذي اجتاح المنطقة.

وطيلة العقد الماضي، انتقد نادر فرجاني ما آلت إليه الأوضاع في ظلّ حُكم عبد الفتاح السيسي، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، حيث وصف سياساته بـ"التخريب الاقتصادي"، منتقداً خُطط الاستدانة من الخارج والاعتماد الكلّي عليها، ما أدّى إلى التحقيق معه من قبل النائب العامّ بتهمة "التحريض على مؤسّسات الدولة المصرية ونشر أخبار كاذبة".

وحتى رحيله، ظلّ فرجاني منشغلاً بمعارضة الاستبداد، فنجده يكتب عبر حسابه على "إكس" مهنّئاً الشعب السوري بالخلاص من حُكم الأسد، وكذلك بالتأكيد المستمرّ على ضرورة فضح الجرائم الصهيونية الإبادية في غزّة وداعميها.
 

المساهمون