غزّة في نصوص الرحّالة الإسبان

غزّة في نصوص الرحّالة الإسبان

17 نوفمبر 2023
غزّة القرن التاسع عشر في رسم للفنّان الإسكتلندي ديفيد روبرتس (Getty)
+ الخط -

يواصل الاحتلال الإسرائيلي حملته الشعواء على أهل غزّة وبيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومقدَّساتهم، إذ إنّنا دخلنا الشهر الثاني من هذه الجريمة المُمنّهجة التي تُقترف على مرآنا ومسمعنا جميعاً، وباسم ماذا؟ وفي هذه الأثناء يضطرّ مئات الآلاف من المواطنين العزّل لمغادرة مخيَّماتهم ومدنهم وبلداتهم، بغية اللجوء إلى العراء، أو إلى مراكز تعليمية وصحيّة شبه مهدّمة، تابعة لمنظّمات إنسانية دوليّة لا تستطيع أن تحميهم من بطش قنابل وصواريخِ أسوأ نظامٍ تسلّط على أرض فلسطين الطاهرة على مدار تاريخها. فلا الرومان ولا الفرس ولا العثمانيون ولا حتى البريطانيون استخدموا هذه القوّة المدمّرة لهدم جزء من فلسطين بمثل هذه القساوة البربرية.

إنَّ الآلية العسكرية التي تحكم هذه الدولة المنبوذة، تعكف على تنفيذ خطّتها القديمة الجديدة، المتمثّلة في إكراه الفلسطينيّين على الخروج من قطاع غزّة واللّجوء إلى جزيرة سيناء، حيث سيبقون حتى إشعار آخر، لن يُعلن عنه أبداً. ولكنّها خطّة معروفة جاهَر بها قادة التيار اليميني المتطرّف الحاكم، قبل شروعهم في اجتياحهم البرّي للقطاع. فلا غرابة في أن تنكبّ الطائرات والسفن والآليات العسكرية الإسرائيلية على تدمير أكبر قدر ممكن من المساكن والعمارات والملاجئ من أجل دفع الناس إلى الجنوب، في محاولة، قد تكون بائسة، للبقاء على قيد الحياة.

ولقد تلكّأت خطط هؤلاء المجرمين بفضل صمود الشعب الفلسطيني في غزّة، واستمرار المقاومة، ورفض الدول العربية المجاورة في الأردن ومصر لعملية تهجير قسري، ستؤدّي إلى نزوح مئات الآلاف على أراضيهما. ولكن مع ذلك، فإنّ الصمود وردود الفعل العربية الرافضة قد لا تكفي: فالرئيس الأميركي، الراعي الكبير لجرائم الصهاينة، يستبعد التهجير القسري، ولكنّه لا يمانع في تواصل عمليات القصف والتفريغ، وكأنّه ينتظر "حركة طبيعية" للناس باتجاه الحدود المصرية بعد أن يكونوا قد خسروا كلّ شيء تقريباً، ثم بعد ذلك، سيدّعون مثلما فعلت الدعاية الصهيونية عام 1948، أنّه لم يتمّ إجبار أحد على مغادرة بيته.

وبطبيعة الحال، بالعودة إلى التاريخ، نلاحظ أنّ عمليات تهجير وترحيل ونفي الإنسان الفلسطيني لم تبدأ في الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي. ومع أنها بلغت ذروتها مع اشتداد الغارات الجوية والتهجّم العشوائي على جميع مظاهر الحياة في القطاع، إلا أنّها لم تنطلق على أثر الحصار القاسي المفروض على القطاع بعد انتخابات 2006، بل هي عملية متجذّرة تمارسها الماكينة الفكرية والسياسية والأيديولوجية للمنظومة الصهيونية منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، قبل فرض دولة الاحتلال عام 1948.

إنَّ السياسيين والمثقّفين والمفكّرين المنتسبين إلى المحافل الصهيونية عوّدونا في الغرب - حيث تعوّد رأيه العام البليد على تصديق كل ما يُنقل إليه عن "تفوّق الثقافة الإسرائيلية وديمقراطيتها وروحها الغربية" وكافة الخزعبلات التي يكرّرها هنا "مثقفونا" - على الاعتقاد أنّ فلسطين عامّة، وغزّة على وجه الخصوص، كانت أرضاً جرداء مُقفرة، تكاد تخلو من الزراعة والصناعة ومظاهر التمدّن والعمران. والأخطر من ذلك أنّنا ما زلنا نسمعهم يردّدون مقولات سخيفة مماثلة عن أنّ "الشعب الفلسطيني لا وجود له".

وثّقت نصوص الرحّالة لما في غزّة من معالم تاريخية ونمو اقتصادي

هذه الآلية الدعائية الصهيونية المهيمنة على وسائل الإعلام الغربية، ومراكز السلطة الثقافية في أميركا والقارّة الأوروبية، تريد أن تجعل الناس تؤمن بأنّها منطقة مهمّشة، لم يكن لها أي أهمية في الماضي القريب أو البعيد. وبالطبع، فإنَّ المطّلع على تاريخ المنطقة يعرف جيّداً أنَّ هذه المقولة لا أساس لها من الصحة، إذ إنّ القطاع أدّى دوراً هامّاً في مراحل تاريخية مختلفة، بدءاً من الحقبة البيزنطية، مروراً بالفتوحات الإسلامية، وانتهاءً بدولة المماليك، أو الخلافة العثمانية، حيث تحوّلت المدينة إلى محطّة أساسية للمسالك التجارية التي كانت تصل مصر وبلاد الشام، وكذلك البحر الأحمر بالمتوسّط.

وأكثر من ذلك، فقد ورد اسم غزّة في العهد القديم والإنجيل في مناسبات عدّة، غالباً بصيغة "عزّة"، حيث تحوّلت إلى رمز للتصدّي ولمقاومة "الشمولية التوراتية"، أي النزعات التوسّعية العبرية الساعية إلى القضاء على الشعوب الأخرى الموجودة في المنطقة، وعلى رأسهم الفلسطينيون. ثم بعد ذلك، صارت العقدة النفسية، التي يقول البعض إنّ الحركة الصهيونية تشعر بها تجاه غزّة وسكّانها.

إلّا أنَّ الفترة التاريخية الأكثر ازدهاراً للقطّاع، ربّما كانت تلك الممتدّة بين الثلث الثالث من القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، أي قبيل انقضاض البرابرة الجدد (التتار المستوطنون) على فلسطين. لهذا، أمام هذا التزوير المُمنهج وآليات تلفيق التاريخ سيكون سلاحاً فعّالاً التمسّك بالشهادات والوثائق والحقائق الداحضة للمزاعم الصهيونية. المشكلة دائماً هنا. ففي هذه الأصقاع الغربية الحافلة بالحداثة، لم يعد أحدٌ يقرأ أو يتعامل مع الواقع بطريقة موضوعيّة مبنيّة على المنطق وفحص المعطيات، باستثناء عددٍ قليلٍ جداً من الناس.

المستعرب الشهير بيدرو مارتينيث مونتابث، الذي رحل في بداية العام الجاري، ليسلَم بذلك من مشاهدة ما ألمَّ بفلسطينه الحبيبة من دمار وتهديم، كان من أوائل المثقّفين الأوروبيّين الذين حاولوا تفنيد مزاعم الآلة الدعائية الصهيونية بخصوص خلوّ فلسطين من مظاهر التمدّن والعمران والازدهار الاقتصادي، قبل تدفّق موجات الهجرة اليهودية المنظّمة والمموّلة من جهات صهيونية كانت تأخذ من الغرب مقراً لها.

اعتمد مونتابث على مصادر الرحّالة الإسبانيّين الزائرين لبلاد الشام والديار المسيحية المقدَّسة في القرن التاسع عشر، وجلّهم من الحجّاج الكاثوليك المهتمين بأحوال الطوائف المسيحية القاطنة هناك، أو بقصد اقتفاء آثار عيسى بن مريم، في أثناء تجواله التبشيري بتلك المناطق. وخلص بعد فحصٍ دقيقٍ لمجموعة من كُتب الرحّالة تلك، إلى أنَّ مؤلّفيها أجمعوا على أنَّ فلسطين كانت أرضاً خصبة مزروعة بانتظام وبطريقة مثيرة جدّاً، إذ تكثر فيها الحقول والمزارع والبساتين، تحديداً في مدينة غزّة وواديها، إذ تتمتّع بـ"أراضٍ طيّبة جداً تتغنى بالخضرة والزراعة".

ويورد مونتابث، في مقاله "موضوعات متعلّقة بالمجتمع الفلسطيني في نهاية القرن التاسع عشر"، شهادة معروفة لأحد ممثّلي الحركة الصهيونية، الكاتب آحاد حعام، الذي حلَّ في المنطقة عام 1891، أي في وقتٍ متزامنٍ تقريباً مع الرحّالة المذكورين في بحث المستعرب الإسباني، الذي سجّل بشيء من الاستغراب والتعجّب، قائلاً: "نميل للاعتقاد في الخارج أنَّ 'إسرائيل' أرضٌ تخلو من الحقول المزروعة، وأنّه من السهل بمكان شراء قطع الأرض لأنَّ أحداً لا يريد أن يفلحها، ولكنّ الأمر مخالف تماماً، إذ يصعب العثور على مناطق غير مزروعة، حتى التلال والهضاب المليئة بالحصى والتراب الجاف، فإنّك ستجد أشجار الفاكهة تنمو عليها".

ادّعاءات سخيفة بأنّ غزّة كانت دائماً على ما هي عليه اليوم

وهناك رحّالة إسباني آخر سبق هؤلاء إلى المنطقة بما يقارب ثمانين سنةً، وهو أوّل من دخل مدينة مكّة المكرّمة، من غير المسلمين، متنكّراً بأزياء شيخ علّامة من المغرب العربي، ولقّب نفسه بـ"علي باي". إنّه، بطبيعة الحال، الكاتب والدبلوماسي والجاسوس الشهير دومينغو باديا، أحد عملاء الإمبراطور الفرنسي نابليون في المشرق وشمال أفريقيا. ففي طريق عودته من الجزيرة العربية، توقّف فترة من الزمن في فلسطين، حيث طاف بغزّة وخانيونس، وغيرهما من المعالم العمرانية الغزّاوية، فوصف الحقول والبساتين المحيطة بمدينة غزّة، ونشاط أسواقها، ومراكز التجارة الرئيسية، ومجريات الأمور في الميناء وغيره، كما أنه وصف جميع الأراضي الممتدّة من خانيونس إلى يافا بأنها "عظيمة تزخر بالخضرة والأشجار والمزارع المثمرة".

وبالإضافة إلى هؤلاء الرحّالة، انهمك مثقّفون إسبان معاصرون في تذكيرنا بما كانت تتميز به مدينة غزّة من معالم تاريخيّة ونمو اقتصادي في الماضي، قبل أن تحوّلها عنجهية "البرابرة الجدد" إلى قطاع مجوَّع ومحروم من المصانع والمراكز التجارية والأسواق ذات الحيوية وسفن الصيد والصناعات التحويلية التي اشتهر بها القطاع لفترات متتالية من الزمن.

وهنا لا بدّ من ذكر الصحافية تيريسا آرانغورين، أحد الأصوات الثقافية النادرة المدافعة باستمرار عن شرعية مطالب الفلسطينيين، وقد أشارت في مقالات عدّة إلى أنّ القطاع تحوّل في نهاية القرن التاسع عشر إلى منتجع لعدد من العائلات البرجوازية الفلسطينية الراغبة في الاستفادة من مناخه المعتدل وشواطئه الرائعة وقربه من الحدود المصرية، أي أنَّ القطاع كانَ يمثّل مقصداً سياحياً رائداً في المنطقة.

كما نشرت آرانغورين، قبل سنوات، كتاب "للتذكير وضدّ النسيان: الذاكرة التصويرية لفلسطين قبل النكبة 1889 - 1948"، حيث جمعت فيه مع المصوّرة الفوتوغرافية ساندرا باريلارون، مجموعةً من الصور تَظهر من خلالها الحياة الاجتماعية والأحوال المعيشية العادية في فلسطين، وذلك بعد التنقيب في أرشيفات خاصّة وعامّة، كما أنها أوردت أقوال بعض الرّحالة الذين استفاضوا بالثناء على جودة المنتجات الزراعية هناك، وفي مقدّمتها البرتقال.

ويقدّم الكتاب لمحة صادقة ومعبّرة عن فلسطين وأهلها، والمدن والبلدات والمدارس والطرق والمباني الحكومية والحقول والمصانع وأنشطة الصيادين وما إلى ذلك.

كان قطاع غزّة يشكّل مقصداً سياحياً رائداً في المنطقة

نعم، الآن أكثر من أي وقت مضى، ينبغي أن نستذكر هذه الصور والأقوال والشهادات التاريخية غير المزيّفة، قبل أن يقضي هؤلاء الرعاع، الذين تدعمهم حكوماتنا الغربية الشريكة في الجريمة بعناد ينافي قيم الإنسانية والعقلانية والكرامة التي تتشدّق بها، على ما تبقّى من العمران والتمدّن والحضارة في قطاع غزّة. إنّهم ماضون في حملة تدميرية أتت على معظم خيرات القطاع المحكوم عليه بالموت البطيء تحت وطأة القنابل والتجويع والبرد والظلام، وسط التواطؤ الغربي والصمت العربي.

وقد يضحك البعض في بلدان البرابرة الجدد، وهم ينقلون لنا بتعليقاتهم الساخرة صور الفلسطينيّين وهم يسوقون عرباتهم المهترئة، بحثاً عن الحياة، مدّعين أنّ الحياة في غزّة كانت دائماً هكذا. ولكن حقيقة الأمر تقول إنّهم هم الذين حوّلوا الجمال والحيوية والحركة إلى جمود وبشاعة.

وإن كنا لا نعرف كيف نمارس الضغوط على حكوماتنا في أوروبا والولايات المتّحدة في سبيل وضع حدّ للغطرسة الصهيونية، وإن كنّا لا نتجرأ على القتال دفاعاً عن الفلسطينيين، فلنتشبَّث، على الأقل، بقدرٍ من التاريخ. فربما يحسن بنا التلميح إلى أن "عزّة"، وهي إحدى تسميات القطاع في النصوص التوراتية القديمة، تعني الغلبة والقوّة. أسماء التضاريس والمعالم الجغرافية ليست عبثية أو اعتباطية لأنّها، في كثير من الأحيان، تحمل دلالات ومعاني ذات مغزى. ولكن قادة المنظومة الصهيونية لا يحسنون قراءة التاريخ الصحيح، ولا يأبهون للجزئيات اللغوية وخفايا اللسانيات، حتى وإن كانت لسانياتهم. عاجلاً أم آجلاً غزّة فلسطين المعزَّزة ستنتصر، رغم أنف هذا المجتمع الدولي النتن والمتعفّن والمنحلّ.


* أكاديمي ومترجم إسباني وأستاذ الدراسات العربية في "جامعة مدريد المستقلّة"

 

المساهمون