حين أعلنت وزيرة الثقافة التونسية حياة قطاط القرمازي، أخيراً، "إحداث متحف وطني يؤرّخ للثورة التونسية"، فاتها أن تُشير إلى أن المشروع نفسه قد أطلقه وزراء سابقون دون أن يتقدّم إنجازُه، علماً أن المبنى المزمعة إقامة المتحف فيه يضمّ لافتة نقرأ عليها: "على بركة الله وضعت السيدة لطيفة الأخضر، وزيرة الثقافة والمحافظة على التراث، الحجر الأساس لمتحف الثورة"؛ عبارة ممهورة بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015.
17 كانون الأول/ ديسمبر هو التاريخ الذي يمثّل نقطة انطلاق الثورة في تونس (2010)، وحين أتت الوزيرة السابقة إلى مكان المتحف، كانت تقدّم ما يشبه التكريم لأهالي المنطقة. ولكنْ، بتتالي السنوات، ما كان يفترض أنه تكريمٌ بات يدلّ على الاستهانة بكلّ المدلولات الحافّة بالمتحف، كسياق الثورة ومكان اندلاعها.
يمكن اعتبار فترة تولّي محمد زيد العابدين لوزارة الثقافة ما بين 2016 و2020 أكثر فترة سمع فيها أهالي سيدي بوزيد بمشروع "متحف الثورة"، حيث أقيمت ندوات ونقاشات وأُعلن رصد ميزانية التهيئة وغير ذلك، وفي النهاية لم يتحقّق شيء تقريباً.
الأَولى إنجاز متحف يوثّق للتهميش الذي ثار عليه أهالي المدينة
قد تكون نيات إطلاق هذا المتحف صادقة من كلّ وزير يُعلن المشروع، لكنّ ظروفاً كثيرة تحول دون تحقيقه تظلّ غائبة عن كلّ خطاب رسمي، أوّلها أن سيدي بوزيد ــ التي انطلقت منها شرارة الثورة ــ ليست مدينة ثقافية بالمرّة، حيث لا يظهر فيها إلّا الحد الأدنى من البنية التحتية للثقافة، وإنشاء متحف يحتاج إلى بيئة ملائمة حوله، إذ لن يكون مجرّد فضاء يزوره من حين إلى آخر بعض ضيوف المدينة، وليست هي بالمدينة السياحية كي يتوافد عليها الزوّار.
إذن، تظلّ التوقّعات ضئيلة في تحقيق مشروع "متحف الثورة"، ومن الأجدى ــ إذا كان الغرض منه التوثيق بما يخدم الباحثين والمؤرّخين، كما ورد في تصريحات الوزيرة ــ أن يُقام في تونس العاصمة، ليس لأسباب تتعلّق بمزيدٍ من التكريس للمركزية، ولكنْ لكون معظم شبكة الباحثين مقيمة في تونس العاصمة وما حولها، حيث معظم الجامعات ومراكز الأبحاث.
الغريب أن مثل هذه الوعود تُقَدّم في وسائل الإعلام المحلّية وكأنها تُطلق لأوّل مرة، ويغيب صوت أبناء المدينة الذي يمكن أن يوصِل رسائل أخرى، كأولوية إحداث مشاريع اجتماعية أو اقتصادية قبل التفكير في إطلاق "متحف للثورة".
على مستوى آخر، ربما ينبغي البدء في التعامل مع "الثورة" بما هو أكثر من محاولات التوثيق لها، وقد أقيمت عشرات المعارض من قبل، وعشرات الأفلام الوثائقية، وصدرت كتبٌ كثيرة بما يفيها حقّها من التوثيق. وإذا كان الهدف من إطلاق "متحف للثورة" إعطاء مكانة اعتبارية لمنطقة سيدي بوزيد، فالأَولى أن يكون ذلك من خلال خطط تنمية ذات مردودية وفاعلية تُخرج أهالي المدينة من التهميش الذي طالما عبّروا عنه، وقد يكون الأَولى إنجاز متحف يوثّق للتهميش، باعتبار أن الثورة كانت لحظة مطالبة بالعدالة بين الجهات في تونس، ولم يتحقّق من هذا المطلب الكثير بعد مرور أكثر من أحد عشر عاماً عليها...