لم يُفلت سعدي يوسف ــ الذي رحل في لندن عن 87 عاماً ــ من المقارنة، في مخيّلة قرّائه، بين قصيدته التي تميّزت بنبرتها الخافتة وصوره المبتكَرة ولغتها الصافية التي تنزع نحو الاختزال وتخليص الشعر من الحشو والمبالغات وزوائد الكلام، وبين أداء شخص حادّ برز منذ نهاية التسعينيات ورافقته انفعالات وتعبيرات قاسية وصلت إلى حدّ شتم العديد من الشخصيات العامة والمؤسّسات الثقافية والسلطات السياسية.
الشاعر العراقي (1934 – 2021) الذي أوصى بجنازةٍ بلا مشيّعين، بدأ طريقه في الهامش، وسط ساحة أدبية هيمنت عليها أسماء مثل بدر شاكر السيّاب ــ الذي يجمعه معه مكان الولادة في أبي الخصيب، جنوب البصرة، وروحٌ ثائرة عبّر كلّ منهما عنها بطريقة مختلفة ــ ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، الذي رأى يوسف أن شعره لم يحتوِ قيمةً فنية. ولم يكن وصفه هذا لشعر البياتي منفصلاً عن تمرّده وخروجه على معايير جيل الروّاد ورؤيتهم للشعر.
تخلّى صاحب ديوان "القرصان" (1952)، منذ السبعينيات، عن خطاب البطولة وتمثيل إرادة الجماهير والاتّكاء على الأساطير الرافدينية القديمة ورموز التاريخ العربي الإسلامي، التي اجتاحت الشعر العراقي حتى تلك الفترة. وربما أمكن العثور على ملامح قصيدته منذ بداياته الشعرية، وإنْ نزعت نصوصه الأولى إلى مواجهة الظلم والاستبداد بنبرة عاطفية. لكنّ مسحةً من التشاؤم وعدم الانجراف إلى الحماسة الثورية ميّزت تلك المرحلة من أعماله، قبل عثوره على صوته الخاص وتركيزه على مفردات الحياة اليومية البسيطة والاقتراب أكثر من ذات الشاعر في مخاطبته الكون وتاريخ الفرد والجماعة.
يتساءل في تقديمه للجزء الأول من أعماله الكاملة إن كان الشعر "إعادة نظر في العالم ونقداً؟ وما دامت الصورة وسيلته في إعادة النظر، وفي النقد، فأي مكانٍ يظلّ للفكرة؟ بمعنى، هل الفكرة تسبق العملية الإبداعية أم تتلوها، هل الشاعر هو الذي يتوصل إلى الفكرة أم القارئ؟ أسئلة كهذه، لن تجد جوابها إلّا في التطبيق، أي في الكتابة، وإلا بعد زمن يمرّ، وسعي يتراكم، وستظلّ هكذا، ما دام الطريق إلى الفن أطول من حياة".
ويكتب في مجموعته "تحت جدارية فائق حسن" (1974) معنوناً نصّه بـ"قصيدة": "حين صافحَني.../ صار كلّ اغترابي/ هاجساً للجذور". ويرد مقطع في قصيدة "في تلك الأيام": "كلّ الأغاني انتهت إلا أغاني الناس/ والصوت لو يُشترى، ما تشتريه الناس/ عمداً نسيت الذي بيني وبين الناس/ منهم أنا، مثلهم، والصوت منهم عاد".
"أسير مع الجميع وخطوتي وحدي"، مقولة سعدي يوسف التي تمثَّلَها على نحو ستّين عاماً من قريح الشعر، مخلصاً إلى ذلك الأخضر الذي يلوّن الأرض ويزركش زرعها في مسقط رأسه الجنوبي، وذكرياته الأولى طفلاً يعدو في المدى المفتوح الذي لا يصلح سوى للهو والتأمل، هكذا ستتداعى الصور في قصيدته نهراً وجسوراً وغيوماً وحجراً وشجرة ليمون؛ الشاعر يقرأ الأرض ويفسّر الأحلام ويعبر إلى ضفاف أخرى.
ما هذا الوجود الذي ينبثق من الماء وإليه يعود؟ هنا في هذه العوالم تتخلّق قصيدة الشاعر ووعيه بالوجود، وسينضاف إليها إيمانه الماركسي في نصوص الخمسينيات والستينيات، التي صوّر فيها الصراع الاجتماعي. وسيعرف في وقت مبكر معنى النفي عن المكان، منذ هروبه لأوّل مرة من قبضة الأمن عام 1957 إلى الكويت ومنها إلى القاهرة. لكن التصاقه بالشعب لم يدفعه إلى تمجيد أبطال حزبه الشيوعي كما فعل كثيرون.
لا مكان للزعيم الأوحد في شعره، وسيحلّ أيضاً قلقُه وحيرته منذ تركه الوطن وارتحاله بين مدن كثيرة، وتسكن الأسئلة فيها حيث لا يثبت الشاعر على أرض سوى كلماته لتصف حالات الشكّ وعدم اليقين التي استبدّت به، وباتت تقبض على علاقته بمحيطه وتعبّر عن اغترابه الدائم حيال الأمكنة التي عاش فيها، وتشكيله لواقع يتصل مع الزمن في سياقاته الاجتماعية والسياسية وينفصل عنه بصور ومشاهد متخيّلة لا تمتّ له بصلة.
في قصيدة "منفيون"، يكتب: "أجمل ما في فكرة المنفى/ أن يصبح المنفى سلطاناً/ "ينظّم" العملة/ والسائحات/ ويُلبس الثورة فقطاناً". كما يدوّن في قصيدة "البصرة": "كم فاضت الأرض حتى تتالت عواصمها بين كفيك/ كم غاضت الأرض حتى غدت محض زنزانة".
على هذا النحو، شكّلت الكتابة الفضاء الأرحب لصاحبها، والأكثر حنوّاً عليه في ساعات غضبه وتيهه وعربته، وفيها لن يجد حدوداً لشعره الذي ينبني كرسائل يوجّهها إلى نفسه، وإلى ما يشغل باله في العالم، ويحتمل مسرحته للأشياء التي تحيط به في حوارات لا تنتهي بين شخوصه الذين ابتدعهم على مساحات نصوصه، ورؤيته للشعر كحركة في المكان تحدّد قربه وبعده عنه.
كما لن يكتفي بالشعر وسيطاً بينه وبين الوجود، رغم غزارة إنتاجه (نشر أكثر من أربعين مجموعة شعرية)، حيث سينشغل بالترجمة أيضاً، ويقدّم للمكتبة العربية ترجمات شعراء من أمثال لوركا ويانيس ريتسوس ووالت ويتمان وفيديريكو غارثيا لوركا وغونار أكيلف وآخرين، وروائيين من بينهم وولي سوينكا وجورج أورويل وكينزابورو أوي، ونغوجي واثيونغو وديفيد معلوف ودانياتشو ووركو وغيرهم.
وإلى جانب ذلك كلّه، سيكتب رواية تحت عنوان "مثلّث الدائرة" (2000) منشغلاً فيها بغربته أيضاً، وبهشاشة أرض لا يستقرّ فوقها المنفى إلا ليرحل من جديد، بدءاً من ملاعب الصبا وعراق الأربعينيات، مروراً بمدن غرق في متاهاتها، وانتهاء بغرفة خلف ضباب لندن. كما كتب مسرحيةً، هي "عندما في الأعالي" (1989)، ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان "نافذة في المنزل المغربي"، وعدداً من اليوميات والنصوص السياسية والأدبية مثل "يوميات الأذى" (2005)، و"يوميات ما بعد الأذى" (2007).
ربما وصل سعدي يوسف إلى مرتقى قصيدته نهاية الثمانينيات، حيث انتهى تجريبه وقلّ تمرّدُه داخلها، متفرّغاً إلى هواجسه ومشاغله خارجها. لكنّه اجترح لغة رشيقة خفيفة، على الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر، متجاوزاً كلّ قديم. لقد اقترب من الناس والحياة كما يهوى، وأنصت عميقاً إلى ذاته.