"كل ما أريده هو أن أعطيك خارطة... ". يكتب روبيرتو سافيانو (1979) لقارئ كتابه الأخير "أصرخ بها عالياً" (بومبياني، 2020). "كل ما أريده هو أن أعطيك خارطة... بوصلة". يكرّر سافيانو في موضع آخر من الفصل الأول المعنون بـ "الخارطة": هذه الكلمات أوجهها لك، أيها القارئ... سواء أكان عمرك خمس عشرة سنة، أو ست عشرة، أو ثماني عشرة. أو حتى سبعين سنة". يواصل سافيانو: "لا يهم. وسواء أكنت رجلاً أم امرأة، هذا أيضاً لا يهم على نحو ما... كل ما أريد فعله هو أن أريك ما لا ترى".
بهذه الكلمات المتماهية مع روح الإله الخبير البصير، يفتتح أحد أشهر صحافيّي إيطاليا في العقد الأخير الكِتاب الذي تضمّن في أزيد من 500 صفحة أبرز شعارات الحرية والعدالة والإنسانية، واضعاً شبه إنجيل لمريدي اليسار في إيطاليا حيث بدأ سافيانو كتابه بمشهد له وهو يقف كـ"يسوع الطفل" من أمام بوابة مدرسته، بينما يتلبس الراوي ـ الكاتب نفسه ـ صوت الرب، يراقب ابنه الذي حلت فيه روح الحرية، من ملكوته ويحرس خطوات الإيطاليين من بعده وكل البشرية من حوله، من خلال جملة من الإرشادات والأمثال والقصص التعليمية عن كيفية انتزاع الحقوق والعيش بكرامة من أجل حياة تحكمها الديمقراطية والمساواة والعدل بين الأفراد. "أصرخ بها عاليا". يقول سافيانو.
سافيانو ـ الذي لا يحتاج لأن يصرخ كونه مدلل وسائل الإعلام الكبرى في إيطاليا ـ لعب في كتابه الأخير على وتر حاجة الإيطالي لبزوغ إله جديد يمده ببوصلة للنجاة، ويعطيه خارطة لخلاص روحه من أدران الرجعية والعنصرية والميزوجينية والفاشية وغيرها من الشياطين المنتشرة في العالم، والتي لا يراها سوى مثقفي اليسار الإيطالي على غرار سافيانو... "شياطين" من أمثال ماتيو سالفيني مثلاً والذي لا يرى فيه المراقبون غير المؤدلجين سوى سياسي عادي، لكنه يمثل الوجه الجديد للفاشية وعودة لزعيمها بينيتو موسوليني بالنسبة لليسار الإيطالي وأتباعه الذين يعتبرهم بييترانجيلو بوتافووكو مؤلف كتاب "سالفيني و/أو موسوليني" (2020) "النواة التمثيلية للإيطاليين حبيسي الانعكاسات الشرطية" والذين جعلوا من سالفيني التهديد الأكبر على المجتمع المدني.
تعيش إيطاليا حالة من التكريس الثقافي للفكر اليساروي
وكتاب بوتافووكو يستوحي عنوانه من كتاب "جيفرسون و/أو موسوليني" لعزرا باوند الذي يقارن فيه الشاعر الأميركي بين رئيس الولايات المتحدة وزعيم الفاشية التاريخي. وهو ما فعله أيضاً الصحافي والمفكّر الإيطالي بييترانجيلو بوتافووكو عاقداً مقارنة بين موسوليني وزعيم حزب "اللّيغا" اليميني متسائلاً: "كيف يمكننا أن نقارن بين الفاتنة الأزلية ريتا هيوارث وأي امرأة أخرى، من حيث أن موسوليني أشبه بشخصية هوليوودية كاريزماتية، وسالفيني الشبيه - على أحسن تقدير - بـ"إنفلونسر" على مواقع التواصل الاجتماعي من نوعية إليترا لامبورغيني".
وبالرغم من أن زعيم اليمين الذي يحاول اليسار الإيطالي الترويج له كشيطان رجيم (وقد لقّبه سافيانو بالفعل بوزير الجحيم) يبدو مثيراً للسخرية مقارنة بإبليس الديانات الكبرى، على غرار المنظمات غير الحكومية التي يتم الترويج لها في المقابل كملائكة تسير على الأرض، فإن العملية بأسرها تظهر رغبة عميقة لدى مفكّري اليسار في العودة لكتابة أديان جديدة مكتملة الأركان بعد أن أعلن الغرب رسمياً موت الرب، وهو ما نلمسه من خلال محاولة تماهي هؤلاء مع كل تفاصيل سرديات الديانات الكبرى. فنجد سافيانو في كتابه الأخير يتخذ له 12 حوارياً لمرافقته في إنجيل "أصرخ بها عالياً" بوجود شخصيات قد تبدو مفاجِئة كغوبلز أو يهوذا الاسخريوطي الخاص بنبي إيطاليا الجديد.
لكن الأغرب من كل هذا وذاك هو محاولة الخروج بتعاويذ معاصرة تطرد الشياطين والأرواح الشريرة عن العالم ممثلة في لغة "الصوابية السياسية"، بالإضافة إلى عبادات تمارس طقوسها جماعياً على غرار الركوع على ركبة واحدة لضحايا العنصرية قبل المقابلات الرياضية وفي البرلمانات في شبه صلوات دينية يبدو أن الغرب افتقدها في الفضاء العام وها هو يحاول العودة لها تحت مسميات مختلفة.
"هل ستعود أوروبا للبحث عن الرب" هكذا تساءلت قناة arte بنسختها الإيطالية في إعلانها الدعائي على فيسبوك قبل عرض الفيلم الوثائقي "الغرب بلا ربّ" في نيسان/ أبريل الماضي، والذي وقفت فيه المخرجة Felixa Tissi على الشروخ الداخية التي تعيشها المجتمعات الأوروبية بعد عقود من إخراج الرب رسمياً من الحياة العامة، ليجد اليسار اليوم نفسه أمام واجب أخلاقي يفرض عليه مد العالم بخرائط وبوصلات وتعويذات وصلوات وركعات ووقفات تفيد المبتدئ في طريقه نحو الحرية وترشده لتحقيق إنسانيته في هذا العالم الذي نولد فيه وحيدين مع شياطين الفاشية، لكن ليس من دون عِظات سافيانو ورفاقه المقدسة.
"(...) فبعد أن فاز فتية اليسار بمعركتهم في الجامعة سنوات الستينيات، ها هم الآن يقفون وهم في منتصف العمر ليملوا على الجميع ما هو صائب وما هو خاطئ، ما هو مقبول وما هو غير مقبول. وباسم التنوع والمساواة وكل الأمور الجميلة، الكثير من الأمور السيئة تحدث". بهذه الكلمات لخّص الكاتب البريطاني ستيفن فراي ضمن ندوات The Munk Debates الشهيرة (دورة 2018)، موقفه من استئساد اليسار في العالم والحمولة الدكتاتورية التي تحيط بـ"الصوابية السياسية". وفي الندوة التي نُشرت وقائعها لاحقاً ضمن كتاب "الصوابية السياسية هل نحن في طريقنا نحو الجنون؟" (Oneworld Publications، 2018) وقف الكاتب اليساري بكل جرأة مع حق اليمين في أن يكون له مكان ليعبّر فيه عن رأيه. "لدي أصدقاء كثر يعملون في الجامعة. الجامعة التي كانت في أحد الأوقات ساحة قتال حيث كان اليسار يحاول أن يجد مكاناً له، نجد فيها اليمين هو من يناضل اليوم لأجل ذلك... ومن المهم أن يفعل ذلك".
بات الأدب الذي يعرّي الواقع غير مرغوب فيه من دور النشر
وإن كان هذا هو حال الأكاديميا الغربية في عصر استئثار اليسار بالكلام/الصراخ وفرض لغته الأحادية، فما هو حال الساحة الأدبية والنشر فيما يخص حرية التعبير عن مواقف مخالفة عن الإيديولوجيا المهيمنة؟
قبل أيام قليلة خرجت الصحافية الإيطالية كيارا جانيني في بث مباشر ـ مسحته لاحقاً عن صفحتها على فيسبوك ـ تتأسف على قرار القضاء بعدم إنصافها في وجه المغني فيديز الذي شتمها بعد أن حاورت زعيم رابطة الشمال سالفيني ضمن بيوغرافيا أصدرتها دار نشر صغيرة محسوبة على اليمين المتطرف قبل ثلاث سنوات.
"دار النشر الصغيرة هذه اخترتها لأنكم أنتم من يسيطر على دور النشر الكبرى"، قالت جانيني بحسرة قبل أن تقرر مقاضاة جميع وسائل الإعلام التي نقلت خبر تبرئة فيديز دون إيراد أقوالها. وتجدر الإشارة إلى أن تدخّل المغني فيديز في السياسة في الفترة الأخيرة، ليس هو ما يزعج الإيطالييين بقدر ما تقض مضجعهم فكرة أنه مغنٍّ في الأساس، ذلك أن فيديز يعد بحسب النقاد الفنيين من أسوأ ما أنجبت الموسيقى الإيطالية ومع ذلك فهو ينعم بترويج إعلامي خرافي من وسائل الإعلام الوطنية. فهل أصبحت إيطاليا تعيش عصر "الأخ الأكبر" والترويج للأسوأ ما دام يعبّر عن وجهة نظر السلطة أو "النظام" بتعبير الصحافي الإيطالي أليساندرو سالوستي؟
صحيح أن الصحافة الإيطالية تعد بحسب تقرير Worlds of Journalism Study الصادر عام 2019 عن "منشورات جامعة كولومبيا" الأقل حيادية على الإطلاق في أوروبا من حيث أنها تميل في أغلبها إلى اليسار، كما أن نكهة الصوابية السياسية في ساحة النشر غدت هي الطعم الطاغي على كل إصدارات الدور الكبرى (وحتى الصغرى الطامحة للصعود) على نحو يثير شبهات سلطوية أقرب لسيناريوهات الرأي الواحد في ظل الأنظمة الشمولية، وهو الأمر الذي أخذ يحذّر منه المثقفون الإيطاليون بصوت خافت في أغلب الأحيان على صفحاتهم الخاصة في فيسبوك على غرار ما أدلى به الشاعر الإيطالي فينتشنتزو ماسكولو قبل أشهر: "انتشار الصوابية السياسية ينذر بالتأثير على الفن، وتجريده من حريته وتطلعه للتعبير عن كل ما يحفّ الواقع من تنوّع، هذه أبسط مبادئ التعبير الفني".
لكن ما هو مؤكد أن الأصوات المعارضة ما زالت موجودة دون أن تحصل بالضرورة على ترويج كتاب كـ"اصرخ بها عالياً" الذي اكتسح وسائل الإعلام قبل أشهر على العكس من رواية "أحياناً أبالغ" الصادرة في نفس التوقيت للصحافي الإيطالي سالفاتوري داما، لأن الأمر يتعلق بـ "رواية غير صائبة سياسياً". هكذا يصف الكاتب روايته الصادرة عن Società Editrice Dante Alighieri، فالصحافي الذي يصف نفسه بالروائي المستقل يؤكد بأنه لا يكتب روايات مينستريم تطلبها دور النشر الكبرى، فعم نتحدث؟
هل أصبحت إيطاليا تعيش عصر "الأخ الأكبر" والترويج للأسوأ؟
في روايته التي تقع في 181 صفحة لا يقف داما كقديس في مشهد افتتاحي يليق بالأنبياء والمرسلين على غرار ابن إقليمه سافيانو (فكلا الصحافيين ينحدر من إقليم كامبانيا جنوب إيطاليا)، وإنما كوغد ساخط على عالم تحكمه المادة: "أكره الأشخاص الذين يتأخرون عن مواعيدهم... مهلاً، هذا لا يعني أن بقية البشر مكانتهم أكبر في عيني. لكن المتأخرين عن مواعيدهم هم الشر المطلق". البطل بضمير المتكلم يعرّي نفسه كمهني بلا قلب، مع كل رذائله أمام قارئ يريد أن يدلف إلى نفسية المدربين الرياضيين الشخصيين الذين يتعاملون مع أثرياء روما ومشاهيرها.
في هذه الرواية، يأخذنا داما بعد روايته الأولى "بيوت للإيجار" (الصادرة في آذار/ مارس من نفس السنة) إلى عالم الصالات الرياضية وإدمان اللياقة البدنية، حيث النرجسيات المتضخمة، وعوالم التحيز الجمالي. الاتجار في المنشطات، والجراحات التجميلية، ومتلازمة اكتئاب شبكات التواصل الاجتماعية. تدور الرواية في شمال روما، مركز البورجوازيات الثرية حيث تدنّس العلاقات الإنسانية من أجل شهوة الظهور والسلطة.
في الرواية لا يقدم الرواي نفسه كمصلح لهذا العالم، وإنما كجزء من منظومة حياة غربية جميلة ومصقولة من الخارج لكنها من الداخل عفنة متحللة. هكذا وصف البطل جسده المصقول وعضلاته المفتولة بفضل المنشطات التي تنخر جسده من الداخل. "جميل من الخارج، متعفن من الداخل". بكل بساطة. داما يحلل من خلال أليغوريا الجسد المصقول والجمال الخارجي، الفساد الداخلي في المجتمعات الغربية، التي يصدّرها لنا سافيانو بنبرة ملحمية على أنها حاملة مشعل الحرية وحقوق الإنسان. لكننا في الحقيقة "لسنا سوى عبيد للصورة".
يعلن داما في المقابل، وهو يشرّح بلغة لاذعة وساخرة خالية من التزويق والتنميق ظواهر اجتماعية استشرت في المجتمع الإيطالي وكرّسها النفاق الإعلامي وفساد القضاء، والجامعة، حيث الزيف هو العملة الوحيدة السائدة. وحيث واصل في تعرية مجتمع يعيش وهم الحرية: "العيش في جمهورية ديمقراطية لا يعني البتة أنني أتمتع بحقوق أكثر من حقوق الخدم في ظل النظام الإقطاعي، والحقيقة هي أنه إذا ما قررت ربة عملي أن تكبس على زر تسريحي. فسأنتهي في الحفرة. تشاو". يكتب داما في روايته الأولى. وفي كلتا روايتيه لا يصم الكاتب آذاننا بالمطالبات الحقوقية، وإنما يمنحنا ببساطة الحق في الشعور بالاشمئزاز من عالم لا تحكمه سوى شهوات السلطة الجسد والمادة.
يطلق سالفاتوري داما النار على الجميع في "أحياناً أبالغ" كما في روايته الأولى، على اليمين وعلى اليسار ولا يستثني أحداً. ففي فصل "ملاك جسر ميلفيو" من عمله الأخير يقوم البطل بالتحرش الجسدي بمذيعة إيطالية من أمام أحد المحلات الشهيرة في روما، ولأنه كان بجانب مهاجر يبيع الورد كان من السهل عليه اتهام هذا الأخير بأنه هو المتحرش لينخرط بعدها هو في إنقاذها. "المظاهر لعبت لصالحي". لينتهي البطل المتحرش في استديوهات التلفزة الوطنية ضيفاً على الضحية التي قررت المتاجرة بقضيتها النسوية، ومع الدموع الاصطناعية والكثير من التمثيل انتهت الحلقة. بعدها اتصلت بالبطل كبريات وسائل الإعلام، الجرائد اليسارية تطلب محاورته بشريطة أن يؤكد أن المتحرش من اليمين المتطرف وزعيم يميني يراسله ويدعوه للنضال في حزبه لطرد المهاجرين المتحرشين من البلد، ومجلة موضة تعرض عليه جلسة تصوير عارياً سوى من جناحي ملاك على أن يعلن مثليته الجنسية. ولهؤلاء جميعاً وغيرهم أبقى البطل الباب مفتوحاً بما أن العروض المادية وامتيازات الظهور كانت متاحة من الجميع.
وإن كان سافيانو في "اصرخ بها عالياً" يطالب القارئ بِعدم صلبه ومن معه من رفاق، إن هم أخطؤوا مانحاً لنفسه امتياز التألّه وعدم العصمة عن الخطأ ـ وذلك عقب فضائح "الراديكال شيك" المتراكمة في إيطاليا وحول العالم ـ فإن داما في نهاية روايته ينحر بطله في صميم كبريائه على نحو غير متوقع واضعاً القارئ أمام نتيجة حتمية لا مفر منها وهي أن الأجساد المنخورة وإن بدت جميلة من الخارج فمصيرها إن آجلاً أو عاجلاً هو الانهيار.
وهكذا وفي الوقت الذي يخط فيه مثقفو الإكليروس الجديد في إيطاليا كتابات "ديجا فو" مرسكلة ومكرورة، تمنحهم حق اجتراح الخطيئة والربوبية في آن. يضع كتّاب إيطاليا العميقة أدباً حقّاً يحفر بلغة جريئة في صلب الواقع الإيطالي، بعيداً عن هالة القديسين ولغة الصوابية المخاتلة. لتؤكد بذلك رواية كرواية سلفاتوري داما، أن الأدب لا يزال ولا بد أن يبقى هو مرآة المجتمعات الحقيقية، وناقوس الوعي فيها وليس أناجيل السلطة المزيفة.
* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا