زيارة موقع: "يَونا"... يَمامة آرامية من معلولا

24 سبتمبر 2022
سيّدة من معلولا، 23 تموز/ يوليو 2005 (Getty)
+ الخط -

يظنّ البعض أن الثراء اللغوي في المنطقة العربية متحصّل فقط من اللغات الأجنبية كالإنكليزية والفرنسية؛ التي تُدرَّس وتُعطى اهتماماً كبيراً بفعل السياسات التعليمية التي تشهدها غالبية الدول العربية. فلو أمعنّا النظر قليلاً في واقع المجتمعات المحلّية لوجدناه يشتمل على لغات أُخرى، تاريخياً وعِلمياً هي من الأسرة اللغوية الواحدة التي تنتمي إليها العربية، وتتقاطع معها بالكثير من الخِبرات التراثية، وتمثل حقيقة الثراء اللغوية لمجتمعاتنا. 

واحدة من هذه اللغات - ومن المؤسف أن تُوصَف بأنّها باتت مهدّدة بالانقراض - هي اللغة الآرامية، حيثُ لم يتبقّ من متحدّثيها سوى سكّان بلدة معلولا السورية وجواراتها (56 كم شمال شرق دمشق)، المعروفة بتاريخها المديد كأبرز حواضن الثقافة والتراث الآراميّين. وعلى ما عانته هذه البقعة الجغرافية المحاطَة بالجبال، من عزلةٍ فرضتها عوامل سياسية أيضاً، وخاصّة في سنوات الحرب الأخيرة بعد عام 2011، إلّا أنّها ما زالت تُحافظ على خصوصيتها، وتشهد مشاريع تنطلق من الآرامية لغةً ومعرفةً.

"يَونا" أو اليمامة، عنوان الموقع الإلكتروني www.yawna.org الذي تأسّس عام 2020، على يد الباحث السوري ريمون وهبي. وصحيح أنّ الموقع بطابعه الإحيائي قلّما يُلتفَت إليه في زحمة المواقع التي تُروّج للمحتوى الاستهلاكي الخفيف، أو حتى المواقع التي تبعث على قطع الصلات بالآخر، وتدعو إلى الكراهية والانغلاق والتعصّب، كما يحدث ذلك يومياً على صفحات التواصل الاجتماعي، إلّا أنّ هذه النزعة الإحيائية المؤطّرة بخطاب عِلمي وجهود بحثية هي ما تصنع منه موقعاً بمحتوى نوعيّ رصين.

واجهة الموقع البسيطة تعكس رسالته التي يتوخّاها، حيثُ الخلفيّة التي تُطالعُ الزائر لحظة دخوله تشفُّ عن صورة كبيرة لبلدة معلولا، وفي الوصف كُتب اسم الموقع "يَونا"، وبالأسفل منه "آراميّةُ معلولا". ثمّ كلمة ترحيبيّة خطّها القائم على الموقع، يُعرّف فيها بغايات المشروع في الحفاظ على اللغة التي تحدّث بها السيّد المسيح، حيثُ تتلخّص هذه الغايات باثنتين: "أوّلاً: الحفاظ على الآرامية وبخاصّة المعلولية المهدّدة بالانقراض، من خلال الأبحاث الهادفة إلى توثيقها ودراستها، ومن ثمّ ترجمة النتائج إلى مواد تعليمية وثقافية حديثة. ثانياً: الحفاظ على ثقافة وتراث معلولا، ورفده بمزيد من الأبحاث التي تتعلّق بالتاريخ والجغرافيا والآثار والمعالم التراثية والفنون والعادات".

الآرامية لغة رسمية للشرق حتى القرن الثامن قبل الميلاد

بالانتقال إلى التصنيفات الأُخرى في الموقع، يطالعنا تصنيف "عن يَونا" وتندرج ضمنه سبع مواضيع مرتبطة؛ الموضوع الأوّل هو "الاسم والرمز"؛ وفيه عرضٌ لغويٌّ لأصل التسمية من خلال البحث في جذورها اللغوية ضمن عائلة "اللغات السامية" (وكان يُمكن للباحث أن يستغني عن هذا التوصيف، الذي لم يعد يُحيل إلى منهجية موثوقة في أروقة الأكاديميا، والاستعاضة بما اقترحه من مصطلحات علماء لغويون مختلفون) ففي الأوغاريتية الكلمة مأخوذة من الجذر "ينت"، وفي العِبرية Yona، وبالآرامية Yawna، وتعني بالعربية: اليمامة. وقد وثّق نقش بلعام بن بعور، الذي يعود إلى دير العُلا شمالي الأردن ويقدّر عمره بـ2800 سنة، ورودَ هذه الكلمة فيه. أمّا رمزيته اليوم، فهي حاضرة بوصفه رمزاً للسلام، إذ اعتُمدت لوحة بابلو بيكاسو رمزاَ لأوّل مؤتمر عالمي للسلام (1949).

أمّا الموضوع الثاني فمعنون بـ"قصّتي مع الآرامية" يتحدّث فيه ريمون وهبي عن شرارة البداية انطلاقاً من المنزل الذي تربّى فيه صغيراً، حيث لاحظ أنّ الكثير من التسميات الآرامية للأشياء بدأت تنحصر في كبار السّن فقط، في حين انتقل إلى ممارسة التوثيق بشكل أوسع ومباشر في الفترة الممتدة ما بين 2006 - 2011. واليوم يمتلك وهبي أرشيفاً جمع فيه قرابة 25 ألف صورة، ورغم تخرّجه من "كلّية الاقتصاد في جامعة دمشق" عام 2010، إلّا أنّ عام 2013 ظلّ الحدث المفصلي في حياته بسبب هجوم "تنظيم جبهة النصرة" على بلدة معلولا. 

وفي ذلك الوقت كان ريمون في لبنان مع أخيه سيمون للعمل، لكنّ الحدث سبّب لهما صدمة نفسية كبيرة، فعادَ سيمون إلى بلدته، وأكمل ريمون طريقه إلى ألمانيا حيثُ درس الآرامية هُناك دراسة أكاديمية، وليتخرّج من "جامعة هايدلبيرغ"، قبل أن يعود إلى سوريّة عام 2018، رغم كلّ الظروف الاقتصادية والسياسية غير المشجّعة، مزاولاً العمل في البصريات نهاراً، والتفرّغ لأبحاثه ليلاً. الموضوع الثالث مخصّص للكتب التعليمية و"سلسلة يَونا" التي انطلقت عام 2015، ثم توسّعت التجربة بعد عام 2018 لتشمل الدورات التعليمية، ووضع منهاج ابتدائي موجّه لتعليم الآرامية للأطفال.

محاولة معرفية لتبديد الجهل بالآخر وحالة الجفاء معه

أمّا باقي المواضيع التي يحتويها هذا التصنيف فهي على الشكل التالي: "تقارير إعلامية" وهي عبارة عن تغطيات من صُحف وقنوات تلفزيونية لنشاط الموقع. و"موقع يَونا" وفيه عرض عن تاريخ الموقع الإلكتروني، منذ تأسيسه عام 2020 وقدرته في الوصول إلى شريحة كبيرة من المتابعين تُغطّي مساحة جغرافية تمتدّ إلى 79 دولة حول العالم. ويتضمّن لمحة عن فريق العمل مثل إدوارد وهبي مصمّم الكُتب والشعار، وفادي برهوم المُطوّر التقني، وفيل إينغلاند المدقّق اللغوي للنسخة الإنكليزية. 

التصنيف الثاني في الموقع عنوانه "الآرامية"، ويحتوي على ثلاثة مواضيع: "اللغات السامِيّة" حيثُ يقدّم الباحث أهمّية ما تبقّى من هذه اللغات مثل: الآرامية والعربية والعِبرية، كما أنّ بعضها يُعدّ من أقدم اللغات في العالم وبخاصة الأكدية والأوغاريتية. ولو أنّ مثل هكذا تسميات وتقسيمات لم تجد مداها إلّا ضمن حواضن الدرس الاستشراقي للّغات القديمة، بالعودة إلى المؤرّخ الألماني شلوستر الذي يُعدّ أوّل من استخدم مصطلح "اللغات السامية" بالاعتماد على المرويّات الدينية، وكان بإمكان الموقع أن يأخذ موقفاً أكثر نقدية، ويقف مطوّلاً عند هذه المصطلحات ويقترح مصطلحات جديدة هي الأصوب تاريخياً وسياسياً.

في الموضوع الثاني الذي يحمل عنوان "تاريخ الآرامية" نستطلع الأهمّية التي جعلت من هذه اللغة ذات مكانة رفيعة، لا عند الجماعات المسيحية فحسب، بوصفها اللغة التي تحدّث بها السيد المسيح، إنّما أيضاً للتقاطع الكبير الذي تخلقه مع لغات المنطقة خوّلها أن تصبح لغة المنطقة الأساسية حتى القرن الثامن قبل الميلاد، وفي هذا التصنيف يبدو الجهد البحثي الكبير في الموقع، بما يُظهر تراكم سنوات الخِبرة، ويحوّله ليصبح مرجعاً أساسياً لكلّ من يريد أن يطّلع على تاريخ اللغات وتشاجُرها بشكلٍ دقيق. أمّا الموضوع الثالث فمخصّص لطريقة التحدّث والمفردات وعنوانه "آرامية معلولا"، حيث يعرض للكلمة العربية ومقابلها الآرامي عبر تسجيلات صوتية، أو فيديوهات مرئية بطريقة مبسّطة.

التصنيف الأخير في الموقع يتناول معلولا تاريخاً وعاداتٍ وتقاليد وأعياداً وسوى ذلك، ممّا يُعطي أوسع فكرة عن هذه البلدة العريقة، حيث نستكشف أوّلاً أصل الاسم المأخوذ من الجذر الآرامي "علل" والذي يعني "دخل"، ولمّا كانت البلدة مُحاطة بفجّين جبليين شرقي وغربي، نُحت اسمها من فعل الدخول إليها.

الثقافة الآرامية هي التطوّر المستمرّ للثقافة المحلّية للعصر البرونزي، كما يُشير الموقع، وسبق لهذه الحضارة أن واجهت نكبات وغزوات منذ الآشوريّين الذين استلحقوا دمشق بإمبراطوريّتهم في القرن الثامن قبل الميلاد، إلّا أنّ تلك اللغة ظلّت قائمة وحيوية، وإن انحسرت إلى نطاق ضيّق، وهذا ما يحاول موقع "يَونا" تمثيله، تلك الحيوية القادرة على العبور من الضّيق إلى رحابة التاريخ، ومن كسر حالة الجفاء القائمة على الجهل، إلى البناء على التعارُف بوصفه خطوة أولى وأساسية نحو التكامل المجتمعي لمكونات الهوية العربية المعاصرة.

المساهمون