زمن الرواية وزمن السلطة

26 نوفمبر 2021
غسان غائب/ العراق
+ الخط -

تَعتبر السلطةُ، في عالمنا العربي، أنَّ التاريخ هو كلُّ زمن مضى قبل أن يستلم رجالُها الحكم، ولا ترى مانعاً في الكتابة عنه، وأنَّ الحاضر، هو الزمن الذي تحكم فيه، مهما امتدّ هذا الزمن، أو قصُر. وترى أنّ كلّ من يكتب عن هذا الزمن إنّما يكتب عن حاضرها، وسوف تتمّ محاسبة الرواية بالمنع من النشر أو من التداول إذا ما كانت تُقدّم روايةً مختلفةً أو معارضة لرواية السلطة عن هذا الحاضر.

وبهذا، فهي تُعلن ملكيتها للزمن، بعد أَن أعلنت أنّها تملك المكان أيضاً. وهنا، فقط، يبدو الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً بلا حدود، إذ يُمكن أن يستمرّ الحاضر عشرات السنين بحسب الزمن الذي تستطيع أيُّ سلطة أن تحافظ على بقائها في الحكم، بينما يُمكن أن يُصبح الماضي تاريخاً حتى لو كان قد حدث بالأمس، في حال انقلاب الحُكم أو زواله لصالح مجموعة حكم أُخرى.

وإليكم الأمثلة: لم يستمر عهد حسني الزعيم في حكم سورية سوى بضعة أشهر، سقط بعدها، وأُعدم، وبات عهده كلُّه ماضياً، أي تاريخاً، واستمرّ عهد أديب الشيشكلي خمس سنوات، وعهد الوحدة ثلاث سنوات، بينما يستمر عهد البعث منذ عام 1963. وفي كلُّ تعاقُب للحكم، يجري وضعُ الماقبل في الماضي، أو يجري حسابه ضمن التاريخ، باستثناءات قليلة ومناسبة للمقبول، وبالمقابل يوضَع العهد الجديد كلُّه في الزمن الحاضر. كلُّ حكم يرغب في إيقاف الزمن. يصادر الماضي، ويجعل الحاضر أبدياً، وبلا نهاية.

تعلن السلطةُ ملكيتها للزمن، بعد أن أعلنت أنها تملك المكان أيضاً

وبينما تُعلن السلطة امتلاكها للحاضر، فإنّها تمنع الكتابة عنه مرّةً أو مرّات وتُصادر الحقّ والنص معاً، أو تُصادر أحدهما حيثما استطاعت، أو ترغب في أن تكون الكتابة محكومة بمفهومها عن الزمن الذي هو زمن الحكم. فكلُّ سلطة ترى أنَّ زمنها دائمٌ وغير قابل للنقض أو الحدود، وأنَّ زمنها وحده هو الزمن الجميل والمنسجم، بينما لا ترى الرواية زمناً مقدَّساً، فالكتابة الروائية هي كتابة عن البشر والوجود، عن القيم والعواطف، عن الإنسان في قوّته وفي ضعفه، عن الدلالات الإنسانية، أو اللاإنسانية في الممارسة. ولا يبدو العابر في متنها إلّا بوصفه عابراً، ومنه بالطبع زمن السلطة.

تقول الرواية إنَّ زمن السلطة، أيَّ سلطة، هو زمن عابر مؤقَّت بغضّ النظر عن زمن الحكم. ولا ترتبط أيُّ كتابة روائية بممارسات السلطة بوصفها ممارسة كلّية ودائمة ولا سبيل إلى هدمها أو تغييرها، فالرواية ليست سجلّاً للحُكم وأشكاله بوصفه ديمومة وبقاءً وهيمنة دائمة. فكلُّ ما يُكتَب إنّما يُكتَب عن الماضي (ونحن لا نكتب في الحقيقة إلّا عن اللحظة الفائتة بصرف النظر عن قربها أو بعدها عنا) لا عن الحاضر؛ فالحاضر ليس سوى لحظة تصل ثم تذهب بلا رجعة، والمسألة هي أنَّ السلطة هي التي تُحدِّد المساحة التي تسمّيها حاضراً أو ماضياً (ويمكن أن تُطلِق عليه اسم التاريخ كي تتخلّص من ارتباطه بالزمن) أو مستقبَلاً فيما لو كانت الرواية تضع تفصيلاً متخيّلاً للمستقبل، بينما تكسر الرواية تلك الأوامر والمحدِّدات.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون