زمن الاغتراب

07 مايو 2021
عفيف بهنسي/ مصر (جزء من لوحة)
+ الخط -

لا يُخشى على الأدب السوري الذي يُكتب خارج سورية من أن يصاب بأمراض الحنين. حتى اليوم، لا تزال النار هي التي تكوّن الكتابة. فالمحرقة مستمرّة، والكتابة تُريد أن تلاحق الجمر قبل أن ينطفئ، أو تسجّل الآثار التي تركها المتقاتلون على الأرض أو بين الناس، أو توثّق كلّ حركة جرت في هذه المنطقة منذ عشر سنوات إلى اليوم.

وقد انتدبت لهذه المهمّة الجليلة الرواية وحدها، بمشاركةٍ من هنا أو هناك من القصة القصيرة، بوصفها رديفاً أميناً للأخت الكبرى. بينما كان السوريون واللبنانيون الذين هاجروا في بدايات القرن العشرين إلى الأميركيّتين، قد وجدوا في الشعر، أي في نوع أدبي آخر غير الرواية، الطريقة المناسبة للتعبير عن مشاعرهم في الاغتراب الذي سموه، أو سُمّي، مهجراً، بوصفه مكاناً أخيراً للعيش بديلاً من الوطن. واللافت في الأدب المهجري أنّ الرواية لم تشغل أولئك الأدباء الموهوبين، وأنّ ما كُتب من الأعمال النثرية القصصية إنّما كان يشبه الرواية، دون أن يرقى إلى نوعها، أو يتقصّد تلبية حاجاتها الفنية، لا لدى جبران خليل جبران، ولا لدى ميخائيل نعيمة، وهما اللذان عُرف عنهما كتابة القصص. والطريف في هذا الشأن أنّ بلاد الاغتراب التي رحلوا إليها كانت تشهد احتفاءً واضحاً بالجنس الروائي.

المحرقة مستمرّة، والكتابة تُريد أن تلاحق الجمر قبل أن ينطفئ

لا يبدو أن أيّ روائي من السوريين الذين يعيشون في المنفى اليوم، أو لنقلْ خارج سورية، ومنهم مَن قرّر أن يختار البلد الذي استقرّ فيه مكاناً نهائياً للعيش، مستعدٌّ لتسمية الكتابة التي ينتجها أدباً مهجرياً. ولسنا في مواجهة مشاعر مشابهة لتلك المشاعر التي ميّزت الأدب المهجري السوري اللبناني، وهذا فارق نوعي سيكون له دور كبير في رسم مسار الأدب السوري في المهاجر، سواء من ناحية المضمون، وهو كما يظهر مختلفٌ تماماً عن مضامين أدب المهجر الذي عرف في بدايات القرن، أو من ناحية الشكل، أو من ناحية اختيار النوع الأدبي للتعبير عن الموقف. فالرواية ليست النوع الأدبي المناسب للإنشاء أو للخطابة أو للتعبير عن الأشواق.

غير أن كلا الأدبين ظلّ مرتبطاً بالمكان الذي جاء منه الكاتب، وحتّى اليوم ــ وأنا أقيّد الكلام بالزمن الحاضر لأنّنا لا نعرف ما التطوّرات المقبلة التي ستواجه المشهد ــ فإن سورية، أو المدن السورية، هي الحاضرة في أعمال الكتّاب السوريين الذين يعيشون خارج سورية، وليست لندن ولا باريس ولا برلين أو هامبورغ أو إسطنبول أو أيّة مدينة من المدن الأخرى التي يعيشون فيها. ولا يزال الزمن، أقصد زمن الاغتراب، ضئيلاً، بل يكاد يكون معدوماً في النتاج الروائي السوري المغترب.

ظلّت الرواية السورية تحمل هذا الاسم، أي إنّها لا تزال تعلن ارتباطها بعالَمها الذي يشكّل موضوعاتها، وأحداثها، وشخصياتها، وهو عالَم سورية وما حدث في سورية، والأمر الجوهري الذي يمكن ملاحظته في القصة والرواية السوريتين اللتين يكتبهما الروائيون الذين باتوا في المغتربات ــ وأنا أشير إلى ما استطعت قراءته من بينها ــ أنّ كلّ الروايات تحصر موضوعاتها في العقد الثاني من هذا القرن، وهي العلامة البارزة التي تؤكّد الرابط بين الكتابة والمرجع.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون