عرفت صناعة الخزف ازدهاراً كبيراً في الأندلس خلال زمن الخلافة الأموية، واستمرّ هذا الازدهار حتّى بعد خروج المسلمين منها، من خلال أنماطٍ فنّية جديدة ضمن ما يُعرف بـ"الفنّ المدجِن". وكانت الجزائرُ واحدةً من المحطّات التي وصل إليها خزفُ الأندلسيّين من بين ما حملوه معهم في هجراتهم من حِرف وفنون.
في كتابه "خزف مدينة الجزائر: تاريخٌ قائمٌ بذاته"، الصادرِ حديثاً عن "منشورات آناب"، يدخل الباحث في علم الاجتماع، رشيد سيدي بومدين، بيوتاً في حيّ القصبة العتيق الذي شُيّد في القرن العاشر للميلاد، ليخرُج منها بصُوَر تعكس شغف سكّان المدينة بالخزف الذي لا تكاد تخلو منه الديكورات الداخلية لمنازلهم، والأفنيةُ الصغيرة التي تتوسّطها، والتي تُطلَق عليها محلّياً تسميةُ "وسْط الدار". ومِن خلال ذلك، يُضيء على علاقتهم بالعمارة وفنون الزخرفة، خصوصاً بين القرنَين السابع عشر والتاسع عشر.
يحضُر الخزف في المنازل القديمة بالعاصمة بصُوَر وأشكال مختلفة؛ فمنه تُصنَع الأواني التي تُستَخدم في الغالب لأغراض تزيينية، كما يدخل كعنصُر أساسي في تزيين القصور والبيوت مِن خلال ما يُسمّى "الزلّيج" (مربّعاتٌ خزفية صغيرة) الذي يُخصِّص له سيدي بومدين جانباً كبيراً من كتابه، متوقّفاً عند أنواعه وخصائصه وتقنياته الفنّية وبلدان صناعته.
يُقارب الكتابُ الخزفَ كشاهد على فترة من تاريخ مدينة الجزائر
من الناحية الفنّية، يلفت المؤلّف إلى أنّ "الزلّيج" يعتمد على فكرة التناظُر؛ حيثُ تتقابَل الأشكال والرسومات المستمدّة من الطبيعة مثل الأزهار والنباتات، أو الحروفيات والزخارف المستلهمةُ من الفنون الإسلامية. يُقارب المؤلّف هذا الفنّ كشاهدٍ على فترةٍ من تاريخ مدينة الجزائر؛ فهذه التفاصيل ستكون بمثابة نافذة يفتَح من خلالها على مواضيع أشمل؛ مثل العلاقات السياسية والتجارية لمدينة الجزائر مع بلدان أُخرى شمال وشرق المتوسّط من جهة، والوضع الاقتصادي فيها خلال الفترة التي سبقت الاحتلال الفرنسي مِن جهة أُخرى.
يذكُر سيدي بومدين أنَّ الجزائريّين كانوا يستوردون "الزلّيج" من إيطاليا وإسبانيا وتركيا وتونس، مفسِّراً عدم صناعته محلّياً، على الرغم من ازدهار الصناعات الحِرفية في البلاد، بكون هذه الصناعة كانت منتشرةً في الشرق، وخصوصاً في الصين وتركيا، قبل أن تصل إلى الغرب، مُعتبراً أنَّ حضور الخزف بشكلٍ كبير في بيوت مدينة الجزائر يُعبّر عن المستوى الاقتصادي الذي كان يعيشه سكّانُها، خصوصاً أعيانها وكبار البحّارة منهُم، الذين كانوا يستوردون الأجودَ والأغلى منه.
في تقديمه للكتاب الذي يتضمّن عدداً كبيراً من الصُّوَر، يُشير الباحث في التاريخ والتراث، عبد الرحمن خليفة، إلى أنَّ العمل لم يكتف بتقديم المعلومات التقنية عن "الزلّيج"، بل سعى إلى إظهار مكانته الأساسية في العمارة المحلّية منذ القرن السابع عشر وحتى التاسع عشر، وعلاقة الجزائريّين به.
حتّى وإنْ لم يكُن استخدامُ "الزلّيج" خاصّاً بمدينة الجزائر، فإنّه يُشبه "علامة خصوصية" تُميّزها عمّا سواها من مُدن البلاد. واليوم، ومع تراجُع استخدامه لصالح مواد أُخرى مثل الإسمنت والطلاء، فقد باتَ بالنسبة إلى كثيرين عنصراً يُعيدهم، بشيء من الحنين، إلى ماضٍ كان أكثر جمالاً وبساطة.
لعلَّ رشيد سيدي بومدين واحدٌ مِن هؤلاء؛ إذ يبدو مدفوعاً في تأليف عمله هذا من منطلقَين؛ أوّلهُما ذاتي لكونه وُلد وقضى طفولته في حيّ "المدنية" (الجزائر العاصمة) الذي تُشبه تصاميم بيوته القديمة وديكوراتها الداخلية تلك التي نجدها في حيّ "القصبة". وثانيهما أكاديمي؛ بوصفه خبيراً في العمران قضى شطراً من حياته المهنية في عددٍ من المؤسّسات الجزائرية والأجنبية، قبل أنْ يتفرّغ للتأليف حول التراث المعماري في الجزائر.