تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثلاثون من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد القاص المصري يحيى الطاهر عبد الله (1938 - 1981).
في عام 1965، نشر يوسف إدريس مقالاً في مجلة "الكاتب"، مبشّراً بيحيى الطاهر عبد الله، الذي تحلّ اليوم الجمعة ذكرى ميلاده، فيلفت إلى أن "هذا الشاب الصعيدي النحيف الساخط على القاهرة والمدينة وكل شيء، يقوم، كما سترون كاللمحات الخاطفة، في هذه القصة (عنوانها "محبوب الشمس")، بمغامرة فنية قد يجازى في نهايتها بلون فريد من ألوان القصة يتميز به وقد لا يخرج بشيء بالمرة.."، ويختم بقوله: "أعتقد أن هذا الشاب الصعيدي النحيف المشحون بكل ما في الصعايدة من عناد وحدّة، سيكون له في أدبنا العربي شأن وشأن قريب".
لم تخب نبوءة صاحب "النداهة"، حيث استطاع القاص والروائي المصري (1938 - 1981) أن يلفت الأنظار سريعاً إلى كتابته المغايرة للسائد منذ قصّته الأولى "طاحونة الشيخ موسى" التي نشرها عام 1963، واستطاع أن يخطف قراءه بعوالم قريته الكرنك في أقصى الجنوب المصري؛ تفاصيل الناس ومفرداتهم وأحلامهم وانكساراتهم مجبولة بأساطير وخرافات برع في نسجها في أجواء درامية مشحونة بالحياة والإدهاش.
تمرّد على جميع أنماط الكتابة متجاهلاً "آباء" حاولوا فرض سطوتهم على القصة في مصر الستينيات
هكذا شقّ طريقاً يدرك خطوته فيها جيداً لكنه لا يعلم أين ستمضي به، وهو - كما وصفه يوسف إدريس - الغاضب والساخط على كلّ الانتهازيين والمزيفين في السياسة والمجتمع، والمتمرّد في الوقت كله على جميع أنماط الكتابة، متجاهلاً "آباء" حاولوا فرض سطوتهم على القصة خلال الستينيات، ومنحازاً إلى المهمّشين والبسطاء الذين حلموا بالتغيير في زمن عبد الناصر، فأجهضت أخطاء الحكم تلك الأحلام.
في مدينة قنا حيث عمِل موظفاً في وزارة الزراعة، التقى رفيقي دربه الشاعرين أمل دنقل الذي باغته مرض السرطان وغادر الدنيا في الثالثة والأربعين وهو يدندن أغنية صعيدية، بعد رحيل عبد الله بنحو سنتين في حادث سير في العمر نفسه، وعبد الرحمن الأبنودي الذي أمدّته "حكمة" الصعيد ليرحل في السابعة والسبعين، فاجتمع الثلاثة في "الجامعة الشعبية" التي تأسّست حينها لتكون فضاءً يقدّم الأدب إلى عامة الجماهير، واجتمعوا أيضاً على أفكار اليسار التي أوصلتهم إلى السجن نتيجة مواقفهم الوطنية المعارضة.
تنوّعت مناخات عبد الله وقدرته على التجريب، سواء في الفانتازيا كما في قصته الطويلة "حكاية على لسان كلب"، التي نُشرت بعد رحيله، و"الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة" (1977) حيث يمثّل بطلها "إسكافي المودة" أقصى درجات السخرية من العالم، أو توظيفه لقوالب السرد التراثية في مجموعته القصصية "حكايات للأمير حتى ينام" (1978).
آمن مع رفيقي دربه أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي بأدب ينحاز إلى الهامش ولا يحفل بالمتون
وفي روايته الشهيرة "الطوق والإسورة" (1975) التي تحوّلت إلى فيلم سنمائي من إخراج خيري بشارة، يسرد تراجيديا المجتمع الصعيدي الذي يحاصره الفقر والجهل والمرض، وغربة أبنائه الباحثين عن لقمة العيش خارج بلادهم، وبناته اللواتي يُقتلن بسبب وقوعهن في الحب، لتبدو جميع الشخصيات ضحايا يعيشون حيوات مسكونة بالصبر والحزن والحرمان.
بعد تجربة قصيرة أثّرت في السرد المصري والعربي حتى اليوم، رحل صاحب "الرقصة المباحة" الذي رثاه صديقاه فكتب دنقل مخاطباً ابنة عبد الله: "ليت أسماء تعرف أن أباها صعد. لم يمت. هل يموت الذي كان (يحيى)، كأن الحياة أبدْ؟ وكأن الشراب ما نفدْ؟ وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزَّبَدْ؟ عاش منتصباً، بينما ينحني القلب يبحث عمّا فَقَدْ! ليت "أسماء" تعرف أن أباها صعد. حفظ الحب والأصدقاء تصاويره، وهو يضحك، وهو يفكر، وهو يفتش عما يقيم الأود! ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات خبأنه بين أوراقهن، وعلمنه أن يسير، ولا يلتقي بأحد!". أما الأبنودي فصرخ "يا يحيى، يا عجبان، يا فصيح.. يا رقصة، يا زغروتة. اتمكن الموت من الريح.. وفرغت الـحدوتة".