تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس عشر من تموز/ يوليو، ذكرى ميلاد الروائي المصري محمد خليل قاسم (1922 – 1968).
في بداية الستينيات، كتَب محمد خليل قاسم الذي تحلّ اليوم ذكرى ميلاده، رواية "الشمندورة"، التي استدعى خلالها طفولته المرّة التي تسبّب بها تهجيره مع العديد من أبناء النوبة، بسبب بناء خزّان أسوان عام 1902، وإعلاء مستواه وصولاً إلى بناء السد العالي الذي انطلقت أعمال تشييده سنة 1960، في إضاءة على مساحة معتمة من تداعيات المشروع الذي ظلّت الروايات حوله تبرز دوره في التنمية.
اضطر الروائي المصري (1922 – 1968) للانتقال إلى القاهرة حيث إن والده هاجر من قرية "قتة" النوبية، التي غمرتها المياه عام 1933 بعد تعلية ثانية لخزان أسوان، فوجد نفسه بلا أرض يزرعها، وهناك سيكمل قاسم دراسته الثانوية، ثم التحق بكلية الحقوق لكنه سيغادرها إلى "الآداب".
برع في التقاط تفاصيل العيش والمكان وارتباط النوبيين بالنيل؛ مصدر حياتهم ووجودهم
شكّلت التجربة الشخصية التي عاشها قاسم أساس حياته وأفكاره، وربما هي التي ولّدت لديه رفض الظلم والاستغلال والسعي إلى تغيير الواقع، فانضمّ إلى صفوف "الإخوان المسلمين" ليتركها بعد فترة، وينخرط في الحركة الشيوعية المصرية، في فترة ظهرت خلالها دعوات عديدة لانفصال النوبة عن مصر، لكن ميوله اليسارية والتزامه الحزبي قادته إلى رفض هذه المطالب، مركّزاً اهتمامه على التحرّر الوطني وتحقيق الديمقراطية والعدالة.
في عام 1948، قُدّم إلى المحاكمة العسكرية حيث سيمكث في السجن خمس سنوات مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة، وتقاربها في بداية حكمها مع الشيوعيين، لكن العهد الناصري سيقمع جميع معارضيه بعد فترة قصيرة، ما جعله مطارداً مع رفاقه لفترة قصيرة، قبل أن يُعتقل من جديد.
صدر الحكم عام 1954 على قاسم بالسجن عشرة أعوام، تنقّل خلالها بين سجون مصر لينتهي في سجن الواحات الذي كتب فيه رواية "الشمندورة" ببطلها الطفل حامد الذي يروي قسوة الظروف التي تعرّض لها النوبيون، خاصة في الثلاثينيات، حيث لم يحصلوا على تعويض حقيقي عن بيوتهم وأراضيهم التي دمرها الطوفان، بينما لم تكترث لهم السلطة التي تركتهم يموتون ويعرون ويجوعون ويهجّرون إلى القاهرة للعمل في وظائف دنيا، ولم تختلف الحال بعد ذلك رغم اختلاف من تعاقبوا على الحكم.
نُشرت الرواية حلقاتٍ مُتسلسلة في مجلة "صباح الخير"، ثم طُبعت في كتاب صدر عن "دار الكاتب العربي" عام 1968؛ سنة رحيل قاسم، الذي استطاع أن يصوّر مشاعر وأحاسيس مركّبة لدى النوبيين الذين ينظرون إلى الشمال بوصفه مصدر اضطراباتهم وأزماتهم، لكنهم يضطرون لترك أراضيهم والعمل فيه، لتتعمّق الأزمة حيث لا تنمية في الجنوب، ولا يجد النوبي مكاناً لائقاً به في زحام العاصمة.
برع قاسم في التقاط تفاصيل العيش وطبيعة العلاقة مع المكان، حيث القرى النوبية هي الأقرب إلى النيل مصدر حياتهم ووجودهم، كما تمكّن من نقل الأساطير والخرافات والثقافة الشعبية لديهم والتي لم تكتب قبل ذلك في عمل روائي، وهو يعود في سرده إلى مصادر تاريخية بالإضافة إلى توثيقه أحداثاً ومحطات لا تُنسى في ذاكرة النوبيين.
يُذكر أن قاسم أصدر ديوان شعر بعنوان "سرب البلاشون" عام 1966، بالاشتراك مع عدد من شعراء النوبة هم: محمود شندي وزكي مراد وعبد الله طه وعبد الدايم طه وإبراهيم شعراوي، ومجموعة قصصية بعنوان "الخالة عيشة".