تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد الشاعر المصري صلاح عبد الصبور (1931 – 1981).
مثلما تفّلت من الأيديولوجيا والالتزام في كتابة القصيدة، ذهب صلاح عبد الصبور في تنظيره للشعر العربي، قديمه وحديثه، إلى تقديم انطباعاته المبنية على التأمّل وتقليب الأسئلة والاقتراحات الجمالية، في سبيل تقديم قراءات جديدة عمادها الذائقة، لأن الشاعر من وجهة نظره لا يمكنه الخضوع لإملاءات البحث والتفكير الأكاديمي اللذين كان ينفر منهما.
في كتابه "حياتي في الشعر"، يستند الشاعر المصري (1931 – 1981) الذي تحلّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده التسعين، إلى رؤيته القائمة على أن القصيدة بمجرّد خروجها للوجود تصبح كياناً مستقلاً في ذاته، مبتعداً في دراستها عن أية مؤثرات خارجية، وهو في ذلك يعاينها في إطار حياتها الخاصة التي تعيشها بمنأى عن سيرة صاحبها التي يمكن أن تنزاح بها عن "الصدق الفني" وفق منطلقاته الخاصة.
ويرى عبد الصبور أن خلق القصيدة يمرّ في ثلاث مراحل، حيث يشبّهها بـ"الوارد" بحسب المأثور الصوفي الإسلامي، أي أنه يستغرق القلب ويكون له فعل، وهو يرى أنه أدقّ من الحدس – المفردة ذائعة الصيت على لسان الفلاسفة والنقّاد- ، فالقصيدة حين يرد إلى الذهن مفتتحها أو مقطع منها لا يكاد الشاعر نفسه يستبين معناها.
آمن بأن وظيفة الشعر جمالية فنية بالدرجة الأولى دون أن يعني ذلك نفي أدوار الشعر الأخرى
وبعد المرحلة الأولى التي يأتي فيها الوارد، تبدأ المرحلة الثانية من حياة القصيدة كما يعتقد صاحب ديوان "أقول لكم"، وهي القصيدة كفعل يلي الوارد وينبع منه، ويسميها "مرحلة التلوين والتمكين"، حيث يحاول الشاعر تسوية القصيدة، ويدفع نفسه إلى رحلة مضنية في طريق قلِق، فهناك منبع في مكان ما يحاول الشاعر أن يتصيّده من خلال رحلته المضنية، والشاعر الموفق هو الذي يستطيع أن يتقدّم خطوات نحو هذا المنبع حتى يتصل به، فينفصل عن ذاته، أو تنفصل الذات عن نفسها لنعيها..".
ونصل عند المرحلة الثالثة، التي يوضّح عبد الصبور بأنها مرحلة العودة، عودة الشاعر إلى حاله العادية قبل ورود الوارد إليه، وقبيل خوضه رحلة التلوين والتمكين، وعندئذ يقطع الشاعر الحوار ليبدأ المحاكمة، فتتجلّى حاسته النقدية حين يعيد قراءة قصيدته ليلتمس ما أخطأ وما أصاب، فيثبت ويمحو، ويقدّم ويؤخر، ويغيّر لفظاً بلفظ، ويستبدل سطراً بسطر، لكي يتم التشكيل النهائي للقصيدة، الذي هو سرّها الفني.
هكذا آمن صاحب ديوان "تأملات في زمن جريح"، بأن وظيفة الشعر جمالية فنية بالدرجة الأولى، وهي تخدم الفن، دون أن يعني ذلك نفي أدوار الشعر الأخرى الاجتماعية منها والإخلاقية في سبيل إيفاء وظيفته الأساسية، لكن يظلّ مصدر الشعر لديه متعالياً عن البشر وهمّه المتعة والجمال، والتداعي هنا طريقه للوصول إلى غايته، ويكون تدخّل العقل محدوداً كما يشير في حديثه عن المرحلة الثالثة.
ولفت إلى أن الشاعر يتألم ولا يحزن معلياً من قيمة الألم والرثاء لحال العالم من حوله، فتأتي القصيدة كصرخة غاصبة يائسة تعبّر عن فجيعته في كلّ ما ادخره أو أمِله من زاد وهي تتشوّف إلى أفق جديد، ليعود السؤال من جديد عن جدوى الشعر وجدوى الحياة وجدوى الفن، مستعيراً مقولة فلسفية تؤكد أن الفن يخدم الإنسان، وليس دوره أن يخدم المجتمع.
وهنا نستعيد إجابته في الرد على سؤال تضمّنه لقاء أجراه معه عام 1965 الشاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة (1946 – 2021) حول علاقة الفن بالأخلاق، حيث أجاب عبد الصبور "الفنان يعيد اكتشاف الإنسان والحياة، وهذه في رأيي ذروة الأخلاقية والفضائل، وأنا أنظر كما قلت للشعر، كفن لا كمذهب".