ذكرى ميلاد: رفاعة الطهطاوي.. رؤية مبكرة للتحديث

15 أكتوبر 2023
بورتريه لرفاعة الطهطاوي (1801-1873)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، ذكرى ميلاد المفكر المصري رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873).



يشير محمد عمارة في تقديمه وتحقيقه للأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، التي صدرت في خمسة مجلّدات عام 2010، إلى أن المفكر المصري الذي تحل اليوم الأحد ذكرى ميلاده، ومرّت أيضاً هذه السنة مئة وخمسون عاماً على رحيله، لم تنحصر في نطاق الفكر مثلما نجدها عند مجايليه من روّاد النهضة العربية كالكواكبي والأفغاني ومحمد عبده، بل وضع تصوّرات شاملة حول التمدن والحضارة سواء في التعليم أو الزراعة أو الصناعة أو الفنون وغيرها.

ويوضّح بأن الطهطاوي قدّم مقترحات عملية في تطوير هذه القطاعات، حيث امتاز بربطه بين "النظرية" وبين "الواقع والتطبيق"، في محاولة لتجاوز لحظة تاريخية تراكمت فيها العديد من عوامل الركود والتجمّد الفكري بعد قرون من تراجع الإسهام المعرفي والعلمي في العالم العربي والإسلامي، وبنفس الطريفة نظر إلى الترجمة كما تبرزها اختيارته التي شارك هو وآخرين في نقلها عن اللغات الأوروبية، مولياً عناية كبيرة للقواميس والعلوم الحديثة.

آمن صاحب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" بنموذج من التحديث ترعاه السلطة عبر إنشاء مؤسسات عصرية، ولم ير إمكانية للإصلاح إلا من داخل الأنظمة وليس من خلال الثورة عليها، وذلك، بحسبب مؤرخين، بحكم تقرّبه من أسرة محمد علي باشا وكبار المسؤولين في الدولة الخدوية، ومديحه الدائم لهم.

نقلة نوعية حققها الطهطاوي في مجال التعليم انطلقت من وعي بأهمية العربية في اعتمادها لغة لتدريس العلوم

مقابل ذلك، يدافع فريق آخر عن تصوّرات الطهطاوي الذي كان دائم الانهماك والانشغال في بناء تلك المؤسسات، ومنها "مدرسة الألسن" وإشرافه على ترجمة أكثر من ألفي كتاب في زمنه، وتأسيسه أولى الصحف والمجلات في مصر، وغيرها من مشاريع أخلص في بنائها ولم يكثرث لمنافع شخصية وفق العديد من الروايات.

تمثّل "مدرسة الألسن" أهم مشروع يعكس تلك الرؤية في كونها أُنشئت لتعليم اللغات العربية والشرقية، لكنها تحوّلت إلى نواة جامعة أراد لها مؤسسها أن تقدّم تعليماً مدنياً في جميع التخصصات في العلوم الطبيعة والآداب في مرحلة لم تعرف مصر إلا التعليم الديني في الأزهر والمدارس والكتاتيب المنتشرة آنذاك، وسيكون لهذه المدرسة دورها في تخريج الكوادر الأولى من المتعلمين الذين بدأوا يتقلّدون مناصب كانت حكراً على الأجانب.

النقلة النوعية التي حققها الطهطاوي في مجال التعليم انطلقت من وعي بأهمية اللغة العربية في اعتمادها لغة لتدريس العلوم الحديثة التي تعلّمها المصريون ضمن البعثات الدراسية التي أوفدتها الدولة، في أوروبا بلغاتها، وبدت الخطوة الأولى لديه بتوطين هذه المعارف عن طريق التأليف والترجمة وبناء نظام تعليمي حديث.

تعريب العلوم في المؤسسات التعليمية كان جزءاً من تطلعات صاحب كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" في مواجهة التركية التي كانت حتى منتصف القرن التاسع عشر، اللغة الرسمية الأولى في الدولة المصرية، التي تعرّبت أيضاً وزارتها وهيئاتها تدريجياً، بموازاة ظهور أولى الصحف الناطقة بالعربية محلّ التركية التي صدرت بها جريدة "الوقائع" قبل أن يصار إلى ترجمتها ثم تأسيس مطبوعات أخرى، من أبرزها "روضة المدارس" التي أصدرها الطهطاوي عام 1870 وضمّت مقالات دعت إلى الإصلاح ونشر التعليم ومنح حقوق للمرأة، بالإضافة إلى مساهمتها في تحديث الكتابة التاريخية والنقدية بشكل كبير.

بعد مرور مئة وخمسين عاماً على رحيل الطهطاوي، تستعاد شخصيته وآثاره التي ساهمت في تكريس الحداثة في الثقافة المصرية عبر جملة مساهمات استمر حضورها لعقود عديدة، حيث أنتجت نخبة من المتعلمين والمثقفين انخرطوا لاحقاً في تأسيس أول جامعة في مصر، وتشييد الثقافة والهوية المصرية الوطنية.

المساهمون