يقدّم ميشيل تورنييه في كتابه "مرآة الأفكار" (دار "معنى"، ترجمة محمد آيت حنا، 2021 ) درْسه الخاصّ عن الثقافة، إذ يقول: "إن أوّل دروس الثقافة هو أن العالم واسع، والماضي لا يسبر غوره، وإنّ مليارات الناس قد فكّروا وما يزالون يفكّرون بطرق مغايرة لنا، ولجيراننا، ومواطنينا". ويبدو الكتاب بكامله تطبيقاً إبداعياً خاصّاً لمثل هذا الكلام، إذ يمنح الكاتب الفرنسي نفسَه حرّية التجوّل الحرّ في عالم الأفكار، لا لعرضها أو تقديمها للقارئ، بل لنقضها أحياناً، أو إعادة النظر في صحّتها، أو في دقّتها. وهو يضع أفكاره الجديدة المغايرة في مقالات مكثّفة ومكتوبة بدقّة، بحيث لا يمكن أن يضيّع المرء جملة واحدة من دون أن يخسر المعنى.
وخسارة المعنى تعني أنك ستضطر لإعادة القراءة، كي تستعيد الفكرة الجديدة التي يقدّمها بهذا الغنى والثراء، أو أنك لن تعرف أبداً ماذا كتب هنا. فالإخلاص هو من الأخلاق الحميدة التي يُشيد بها الناس، ويمدحونها، ويحثّون على التمسّك بها كقاعدة من قواعد الحياة التي تحفظ التوازن الاجتماعي. هذا صحيح، وقد كُتبت آلاف الموضوعات المدرسية بشأن هذه القيمة العظيمة، ولكنّ تورنييه يضرب فجأةً ضربةً خطيرة في الجدار السميك كي يقول: لا، قد لا يكون الإخلاص كذلك. أين؟ قال: إن إخلاص الخادم والاستعداد للتضحية من أجل السيّد، وهو ما يجعل منه خادماً مثالياً، ما هو إلّا نذالة. والمتأمّل في حكايات السجون مثلاً، أو المعتقلات، في الحكايات الشفهية أو الروايات، سيرى نماذجَ مرعبة من أولئك "المخْلِصين" من الخدَم والسجّانين الصغار الذين كانوا يتبارون في إظهار إخلاصهم لقادتهم عبر تنفيذ التعذيب والتفنّن في ممارسته. يقول تورنييه: إنها أخلاق بغيضة ولا تعبّر إلّا عن حقارة الخادم ووضاعته.
خسارة المعنى تعني أنك ستضطر لإعادة القراءة
يُقيْم تورنييه بناءَ كتابِه على أساس فلسفي يقول إن المفاهيم تتحرّك في أزواج متضادّة، وإن كلّ ضدّ ليس أكثر من المفهوم إيجاباً أو سلباً. ففي النزاع بين اليمين واليسار مثلاً، يقول إن اليمين أقام فلسفته حول الإنسان على أن الوراثة هي أساس بنيته، بينما قدّم اليسار البيئة أو الوسَط الحيّ؛ وما هي النتيجة؟ هنا نلمس تشاؤماً لدى اليمين لأن الوراثة لا فكاك منها، بينما نلمس تفاؤلاً لدى اليسار لأن البيئة أكثر قابلية للتطوير.
هل يمكن البحث هنا، أي في التفاؤل، عن أسباب مَيْل الكتلة الكبيرة من الثقافة العربية إلى اليسار؟ وهل يرتبط هذا بسعيها لتحقيق تقدّم ما لبلدانها في زمن التحرّر؟ ربما. لكنّ تحقُّق الآمال على الأرض يختلف تماماً عن الأمنيات والأحلام. فحين تقود أمّةً من الأمم سلطةٌ شمولية، تمثّل اليمين، فإنها ــ يقول تورنييه ــ تدعو إلى العنصرية، وتُنشئ معسكرات الإبادة كي تتخلّص من "العرق الفاسد". وإذا كانت السلطة الحاكمة يسارية، فإنها تُكثر المعسكرات أيضاً، "ولكنْ بغرض إعادة التربية والتأهيل، وهي لا تقلّ فتكاً عن معسكرات الإبادة". يمكن تتبّع هذا في مئات التجارب لأنظمة الحُكم التي حملت راية اليسار، ومارسَتْ السلطة بمنطق المعسكر...
* روائي من سورية