- تستخدم الرواية العمى كرمز للحالة الإنسانية في القرن العشرين، معكسةً العمى الأخلاقي الناتج عن الحروب والصراعات، وتشير إلى فقدان البشرية لبصيرتها الأخلاقية.
- تطرح أسئلة حول الأخلاق والإنسانية، مستكشفةً تأثير غياب الوازع الأخلاقي على المجتمع، وتدعو للتفكير في أهمية البصيرة الأخلاقية في توجيه السلوك الإنساني.
فجأةً يُصاب رجلٌ بالعمى وسط الشارع بينما كانت سيّارته متوقّفة في انتظار إشارة المُرور الخضراء. سوف تتوالى حالات العمى في المدينة، وتتراكم حتى تضطرّ الحكومة لفتح مستشفىً خاصّ بالعُميان، غير أنّه لا يكفي إذ إنّ المدينة كلّها تُصاب بالعمى، عدا امرأة واحدة تضطرّ للادّعاء أنهّا عمياء، وذلك لتحاشي أن تكون عدوّة لمُجتمع كامل أضحى يتصرّف في وضع العمى الأخلاقي بعد عماه البصري. ولا يفوت الرِّوائي الحصيف أن يجعل إدارة المدينة تختار مستشفى الأمراض العقلية مكاناً لتجميع المرضى المُصابين بالعمى.
تبدو رواية "العَمى" لجوزيه ساراماغو، مثل خاتمة روائية للقرن العشرين، ذلك القرن الدّموي الذي أُصيبت فيه البشرية جمعاء بالعَمى. ففي الرِّواية عالمٌ رمزيّ لا يتحمّله أيّ واقع مُفرد، لا البرتغال بلد الروائي، ولا أيّ بلد آخر، إذا ما أخذناه وحده في مواجهة ذلك الامتحان. فالعالَم كلّه ابتدأ منذ عام 1900 يدخل إلى المستشفى بعد أن أُصيب بالعَمى. أُمم مجنونة تقبل على الحروب بشراهة وحشية لا مثيل لها، وتُضحّي في سبيل خوض الحروب فقط، بجيل من أبنائها الشُّبّان، عدا عن الدمار المادّي الذي يؤدّي لمحو مُدن من الوجود، أو تدميرها، أو تكبيد سكّانها الحدّ الأقصى من الخسائر.
دولة بعد أُخرى، مُجتمع بعد آخر، الدُّول الصناعية التي حقَّقت نِتاجاً هائلاً من السِّلع، والدُّول الفقيرة التي تحلم بالصناعة، والدُّول الأكثر فقراً التي ترجو أن يلحقها شيء من الفُتات. عمىً أخلاقيّ مُميت استُخدمت فيه جميع أنواع الأسلحة التي كان يقصد منها قتل البشر، والقضاء على جميع أنواع الحياة الأُخرى، حيث لم يوفّر المُتقاتلون أرضاً، أو شجراً، أو نهراً، أو حيواناً برّياً أو داجناً، من النار التي تفنّنوا في اختراعها، وكلّما كانت الدُّول المُتحاربة أكثر تقدُّماً من الناحية التكنولوجية، كانت أكثر وحشيّة في اختراع البارود المدمّر، وأقصى اعتذار عن تلك الجرائم، هو أنّهم وضعوا جائزة باسم مُخترع البارود السيّد نوبل، وسمحوا لعصابات من القتَلة الصهاينة أن يستمرّوا في أداء الدور ذاته، بذريعة تعرُّضهم للاضطهاد.
ماذا يُمكن أن يفعل الناس في غياب القانون الأخلاقي؟
تضعُ الرواية الناس في امتحان الأخلاق أولاً. ماذا يُمكن أن يفعلوا في ظلّ التحوّل الجديد، في سياق غياب القانون الأخلاقي أولاً، قبل القانون الوضعي الإجرائي؟ من قَرأ الرِّواية، وعاش الأحداث في السنوات العشر الماضية، يعلم الانزلاق الخطير الذي يمشي فيه بعض الناس حين يغيب الوازع الأخلاقي، أو حين يغيب الرقيب، أو حين يُمكن أن يفلت من العقاب، أو يعمى البصر والبصيرة.
ينفلت العقل، كأنّ البصر مُفتاح لذلك العقل النائم الذي يُوقظه العَمى، أو فقدان البصيرة، على الهمجيّة والقتل والتجرُّد من إنسانيّته... ينسحب الناس من أخلاقهم، ومن قيمهم، بحيث لا يُمكن إلّا أن تصف ذلك بالعَمى، دون أن يكون لذلك أي علاقة بفُقدان البصر لدى أفراد بسبب مرض ما، هكذا لا تزال مُجتمعات كاملة في الكُرة الأرضيّة تندفع إلى المذبحة: الهوتو والتوتسي في رواندا، والمجتمع الإسرائيلي بشكل شبه كامل، من يساره إلى يمينه، الذي يُصوّت بأغلبيّته لمُجرم مثل نتنياهو.
لا عجَب أن يكون ساراماغوا أبرز كاتب في العالَم أدان عُدوان الصهاينة على فلسطين.
* روائي من سورية