في تقديمه للتحقيق الذي صنعه لكتاب "أخبار النحويّين البصريّين ومراتبهم وأخْذ بعضهم عن بعض" لأبي سعيد السيرافي (284 ــ 368هـ)، يُنبّه المُستشرق الألماني وعضو "المجمع العِلمي العربي في دمشق" (مجمع اللغة العربية)، فريتز هينريش كرينكو Fritz Johann Heinrich Krenkow، إلى تصحيفٍ فاحش وقع فيه ناسخُ النسخة الأصلية، علي بن شاذان الرازي والذي انتهى منها عام 376هـ، إذ كتب في العنوان "مراثيهم" بدل "مراتبهم".
ينبعُ تنبيه كرينكو (1872 - 1953)، أو محمد سالم الكرنكوي الذي نستذكره بهذه السطور لمناسبة "اليوم العالمي للّغة العربية"، من حرصِ رجُلٍ بذل في عمله التحقيقي كلّ طاقة وجهد، حتى أخرجه للناس بأدقّ صورة عِلْمية، ومثلُ ذلك يُقال عن اشتغالاته الأُخرى؛ كتحقيقه الجزء الأوّل من "أمالي" أبي علي القالي، و"حماسة" ابن الشجري، وسوى ذلك كثير.
جاء كرينكو من خلفية الصرامة العِلمية للمدرسة الألمانية الاستشراقية، وإن كان هذا القول من البَدهيات المِخبرية التي قد تعني المُختصّ ولا تصلُ بَوَارِقُها إلى القلوب كافّة. وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ أستاذ اللغة العربية في "جامعة بون" (1931 - 1935)، وقبل ذلك "جامعة علي گره" في الهند (1929 - 1930)، بدأ حياتَه عاملاً ثمّ مالكاً لشركة تَصنع الأقمشة في إنكلترا.
أقدار عشرة نُحَاة وناسخ فارسي ومستشرق ألماني
ماذا كان يشتغل النُّحاة في حياتهم؟ ليس كلّهم كان بأناقة أبي علي الفارسي، الذي يُشاع أن نفورَه من المتنبّي يعود إلى ما كانت عليه هيئةُ الأخير، والله أعلمُ بما في النفوس! كم رغيف خُبز كان عند الفراهيدي حين موته، وكيف قُتِل ابن عصفور (رجماً بالنارنج حسب "الوافي بالوفيات"؟)، بسبب مشاحنة بينه وبين السلطان المستنصر الحفصي الذي استخلف نفسَه بنفسه في زمن منافسه السلطان الظاهر بيبرس، وماذا عن القضاء الذي رفض السيرافي أن يتولّاه مرّات ومرّات ثمّ تولّاه؟
نعود إلى "مراثيهم" أم "مراتبهم"، وأستميح شيخنا كرينكو عُذراً، بعد أن بيّنا منزلته العِلمية، لأقول إن الإحالة إلى الرثاء لا تخلو من وجاهةٍ هي الأُخرى، فأن تُترجِمَ لعشرة نُحَاة، كما فعل السيرافي في كتابه، وتُفصح عن أحوالهم وأهوالهم، كشهادة الأصمعي على مصير جعفر البرمكي مثلاً! وما مرُّوا به في حياتهم العاديَّة قبل العِلمية، بدايةً من أبي زيد (أوائل القرن الهجري الثاني)، وانتهاءً بأبي العبّاس المُبرَّد (أواخر القرن الهجري الثالث)، فأنتَ هُنا لا تُقدّم "المراتب" وحسب، وإنْ كان هذا الغرض هو ما عُرِفتْ أو اختصّتْ به كُتبُ التراجم والطبقات، إلّا أنّ صنعتك هذه تستبطنُ مقداراً من رثاء أيضاً... وكأنّ كلّ ترجمة رثاء.
لذا فإنّ التصحيف الذي وقع فيه ناسخٌ فارسي في القرن العاشر، ونبّه إليه بعد ألف سنة مُحقّقٌ ألماني عاش في القرن العشرين، يحتفظ بقيمته العِلمية نعم. لكنْ، ما نفعُه إن هو لم يدفعْنا إلى أخْذِ موقفٍ تراجيدي من العالَم؟
مهلاً؛ هل كبّرتُ الموضوع كعادتي أكثر ممّا يستحق؟
ربّما، ولكنّ حمولةَ الكتاب ليست بعيدةً عن هذا، هو كرينكو نفسه يصفُ شيخَه السيرافي في الصفحة المُقابلة لتنبيهه: "وكانَ زاهداً لا يأكلُ إلّا من كَسْبِ يدهِ، وحُكِيَ عنه أنّه كان لا يخرجُ إلى مجلسِ الحُكْمِ ولا إلى مجلسِ التدريس في كلّ يومٍ، إلّا بعد أن ينسخَ عشْر ورقاتٍ بخطّه الجيّد، ويأخذ أُجرتها عشَرة دراهم تكون قَدْر مؤونته ثم يخرجُ إلى مجلسه"، ألا يستوعب الكلام هنا قراءةً رثائية إذاً؟ قراءة تُذاق ولا تُحكَى.
ليست هذه دعوى تراجيدية مبذولة، بقدر ما تكون موقفاً ينقلُنا من الرُّتبة والمكانة إلى وعيٍ إنساني للوجود، وفي قراءة "أخبار النحويّين البصريّين"، بوصفه جزءاً من التراث الإنساني، الكثيرُ من هذا الوعي، كما أنّ الوقوف على سيرة جامعها السيرافي ومحقّقها الكرنكوي وعلاقتهما بالعربية مثالٌ جليل، يُكثّف الزمن بين يدي القارئ.