حيدر حيدر عائداً إلى البراري

05 مايو 2023
حيدر حيدر (1936 - 2023)
+ الخط -

عزلة الروائي السوري حيدر حيدر (1936 - 2023)، الذي رحل فجر اليوم الجمعة، جزءٌ من صورته التي استودعها لدى قرّائه، وهو من الكتّاب الذين أرسوا تقليداً خاصّاً بهم في الرواية السورية. لربما أكثر ما يُميّز تجربته لغتُه الوحشية التي تَظهر لغةً بِكراً، لغةً خارجةً من الغابات، وكأنّما مقتطعة من البراري، وكأنّما منتزعة من البحار. لغة قد لا تجد لها ناشراً في العالم العربي اليوم، بسبب تتالي الهزائم التي أصابت الثقافة كُكلّ، هزائم نجد أصداءها في الإشكالات التي شغلت أدبه، وهي أسئلة في السياسة والدين والجنس، وهو ما تمثّله، أيّما تمثيل، روايته الشهيرة "وليمة لأعشاب البحر".

تُقرأ عزلة حيدر في "حصين البحر" في طرطوس كجزء من العزلة التي ضُربت على الثقافة، أو على حاملي هموم تغيير مجتمعاتهم. وهو من الكتُّاب الذين يجد لديهم القارئ حسّاً ثورياً لا يهدأ، حسّاً قوياً وضاجّاً، يشبه العدوى، ويدفع بقارئه إلى التغيير، يدفعه إلى الثورة في الحيّز الشخصي، ليجعل المرء ينسلخ، بكامل وعيه، عن ذات قديمة... يدفعه أيضاً إلى الثورة في الحيّز العام، ليجعل المرء يدرك حتمية معركته، ووضوح أطرافها التي تبدأ في أدبيات حيدر مع الاستعمار الخارجي التقليدي، وتنتهي مع المستبدّ المحلي، مروراً بكلِّ القيود الفكرية التي تلجم حدود التفكير؛ مثل العقائد، لا الدينية وحسب، بل السياسية أيضاً. كما لم يكتب من موقع أيديولوجي محدَّد؛ بل كتب من أيديولوجيا تحرُّرية خالصة قد تلتقي مع تيارات وأحزاب، وقد تفترق عنها. المؤكَّد أنّ ما شغله هو تحرُّر الإنسان نفسه، انقلابه على ذاته، وتمثيله الحياة على صورة الطبيعة؛ حرَّةً، وبلا ترويض.

أكثر ما ميّز تجربته لغتُه الوحشية التي تَظهر لغةً بِكراً

ينتمي حيدر حيدر إلى جيل رسم الثقافة السورية بالصورة المعاندة التي نعرفها، ثلاثة من جيله ماتوا بالسرطان؛ هُم سعد الله ونوس (1941 - 1997)، وممدوح عدوان (1941 - 2004)، وهاني الراهب (1939 - 2000)، بينما مات هو معتزلاً. ولربما اعتزاله الحياة العامّة جنّبه موتاً مشابهاً؛ فاعتزاله جاء وسط الخراب العام والرداءة المعمّمة، وشيوع صورة مثقّف المقاهي، وكاتب العلاقات العامّة، وأخيراً روائي "الترند".

وهذا المآل يتناغم مع سِياق حياته؛ إذ تنقَّل بين بيروت والجزائر وقبرص. عمل مدرّساً للعربية، مساهماً في مسألة التعريب في الجزائر، وصحافياً مع إعلام المقاومة الفلسطينية في بيروت في سنوات الحرب الأهلية. وهذه نضالات، على أهمّيتها، كانت تحدث على هامش الكتابة، أو بموازاتها، لأنّ الموضوعات التي شغلته كانت لصيقةً بمقولات التمرُّد، وإعادة خلق الذات. المثقّف لديه مُتغرّب، مهاجر. حياته ملأى بالصعوبات التي تتأتّى من اختلاف وعيهِ في بيئات مغلقة، لديها تصوّراتها النهائية عن الحب وعن الحرية، ولديها قيمها ومحدّداتها النهائية حيال الاعتراف. فيما مثّل هو نقيض الاجتماع المتآلف. الحبُّ لديه أحد أطوار الحرية، والحرية أحد تعاريف الإنسان الذي من حقّه أن يجعل الحياة أفضل.

كانت عزلته جزءاً من العزلة التي ضُربت على الثقافة

إسهامات حيدر في الرواية كانت في تركيزه على كونها شكلاً تعبيرياً ذاتياً، ينقل تجربة عيش الإنسان بموازاة تجربة الجماعة، أو داخلها، مع الحفاظ على فردية التجربة المكتوبة. وقد كتب عن شخصيات رافضة لمجتمعاتها. هذا مألوفٌ اليوم، لكنّه صاغ تجربته تلك في حضور مدَّ الواقعية الاشتراكية، وسِواها من المدارس التي صوَّرت الأدب خنادق تؤطّر الجماعة أو تصفها أو تُعدّها لمعركة. إذاً، أدبُه جمالي، فيه حيّز كبير للبوح الوجداني. فيه حيّز كبير لاستعراض الغضب والحزن، ما يسوّغ إسرافه في اللغة، وأحياناً المغالاة في تصوير قوّتها. يُقال إنّ لغته شعرية، وهي ليست كذلك بالضبط؛ بقدر ما هي لغة تشبهه، لغة من ابتكاراته؛ فيها من انطلاق السرد، وفيها من جِدّة الصورة، وفيها من توقُّد العاطفة، من غير أن يتخلّى عن كونها حاملاً لمنطوق ما، هو لسان الشخصيات، وواقعها الموحش.

لربما ارتبط اسمه عربياً برواية "وليمة لأعشاب البحر" (قبرص، 1984)؛ رواية يُقال إنَّه بسببها سقط قتلى في القاهرة في التسعينيات بعد إعادة نشرها في طبعة مصرية ورفْض الأزهر لها. صحيحٌ أنّ هذا يختصر الكثير من مقولاته، ولربّما أيضاً التركيز على حادثة من هذا النوع يظلم كاتباً مجدّداً مثل حيدر حيدر. ولكنّه موقف يمثّل إحدى جوانب تجربته؛ وهي حكاية حرية التعبير في أوطاننا. وقبل ذلك، حكاية إنسان يضيق بالأمكنة، يضيق بالأرض نفسها بعد أن أُخضعت لأشكال الترويض جميعها. إنّه الفهد الذي يُقارع أحياناً، والسنونو المهاجر الذي يتخلَّى أحياناً أُخرى. وبين هذا وذاك، يبقى حيدر حيدر اسماً خاصّاً له وقعه، وقع الأصوات في البراري، حيثُ يمكن للإنسان أن يعمل ويعيش ويحبّ ويمتلئ بالحرية.

أعمالُه كثيرة، وقد اشتهر روائياً. وله في الرواية: "الزمن الموحش" (1973)، و"الفهد" (1978)، و"مرايا النار" (1992)، و"شموس الغجر" (1997)، "وهجرة السنونو" (2008) التي فيها أصداء من سيرته الذاتية. لكن لا بدّ من القول، لمزيد من التحديد؛ إنّه روائي قادم من عالم القصّة الذي بقي مساهماً فيه، ومدركاً فنّيّاته. وله في القصّة: "حكايا النورس المهاجر" (1968)، و"الوعول" (1978)، و"التموّجات" (1982)، وغيرها. وقد كتب في المقالة وجمع بعضها في كتاب "أوراق المنفى- شهادات عن أحوال زماننا" (1993)، كما عرفت السينما بعض أعماله، أشهرها فيلم "الفهد" الذي أخرجه نبيل المالح عام 1972.


* روائي من سورية

المساهمون