يتجاوز موضوع "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كلّ الحقوق الأُخرى التي تُشير إليها إعلانات حقوق الإنسان، ويتغلّب عليها، ويصبح لدى وارثي مبادئ الثورة الفرنسية والثورة الأميركية مُقدّساً. يتجاهل قادة هذا العالم السياسيون (والفكريون مع الأسف) عامدين حقّ الفلسطينيين لا في الدفاع عن النفس وحسب، بل حقّهم في العيش أساساً، في الحياة بأمان وطمأنينة في أرضهم.
ووَضْعُ "إسرائيل" في عالمنا المعاصر يُثير الشكوك، في كثير من الأحيان، تجاه موضوعية العِلم والمعرفة والأيديولوجيا، بقدر ما يثير الشكوك تجاه الضمير والأخلاق والرحمة والمشاعر الإنسانية بكل تنويعاتها لدى أفراد وشرائح عديدة تزعم أنها تدافع عن القيم والمبادئ. فقيام "الدولة العِبرية" نفسه، وفي العصر الحديث بالضبط، أي في عالم انتشرت فيه أفكار إنسانية رفيعة تصدّرت الدراسات التاريخية والفلسفية والروايات والشعر والمسرح، وتجاهل العالم الحديث كلّه تقريباً مأساة الفلسطينيين لصالح مأساة اليهود يجعلنا نعيد طرح السؤال لماذا؟
صدّر الأوروبيون المذبحة إلى فلسطين وكلّفوا الصهاينة بها
ما هو العنصر الحيوي الذي يُمكن أن يكون قد أيقظ الضمير العالمي تجاه المحرقة التي نفّذها النازيون في ألمانيا، ولم يحرّك تلك الضمائر تجاه ما يفعله أبناء المحرقة اليهود بالفلسطينيين من أفعال أكثر وحشية من الطراز النازي؟ هل يحتاج العالم إلى أفران الغاز كي يستيقظ ضميره؟ ولكن أشكال الإبادة، أو الرغبة في الإبادة، أو مشاريع الإبادة، التي ابتكرها البشر عديدة ومتنوعة، ولم يُكتب في أي لوح من ألواح القدر أو التاريخ أو الإنسانية أن إجراءً واحداً يستهدف الإنسان، مثل أفران الغاز الخاص باليهود، هو الجدير وحده بالتعاطُف والشجب والاستنكار والمساعدة.
ويميل المرء لأن يسأل كبار المفكّرين، والروائيين، والشعراء، والفلاسفة، والأطباء النفسيّين، والمؤرّخين في العالم المناصر لـ "إسرائيل"، عن موضوع الفلسطينيين: هل ترون أنهم سكان أصليون في بلادهم، أم مهاجرون من أميركا وروسيا وألمانيا وغيرها؟ ولماذا يحقّ للمهاجر المستوطِن أن يقتل الساكن الأصلي بحجة الدفاع عن النفس؟ ولماذا لا يحقّ للساكن الأصلي الدفاع عن النفس؟ والمؤسف أن سؤالي لن يصل، لأن العالم المتحكّم بالسياسة والصحافة والثقافة أحياناً، اختار الصمَم والعمى فيما يخص هذه القضية، وربما كان هذا هو حال الثقافة العربية كلها، إذ إن صمم العالَم يطالنا جميعاً، بل ربما كان جانباً كبيراً من تجاهل الغرب للثقافة العربية، للرواية العربية والشعر العربي والمسرح العربي، وربما كل الفنون العربية، هو خشيتهم من تصديق روايتنا عن أنفسنا من جهة، ذلك أن لدينا رواية عن المستعمر أيضاً من جهة ثانية، وكذلك (وهو الأكثر حيوية، وأهمية اليوم، بسبب مسؤولية قادة الغرب عن المأساة المتواصلة) رواية الفلسطينيين عن فلسطين.
لقد كنّا نظنّ أنهم قد أنهوا موضوع الأعراق، وأن عهد الفكر الاستعماري قد ولّى، حين كانوا يعتبرون أن ليس من حقّنا أن نُدافع عن أنفسنا لأننا لسنا أنفُساً، لكنهم لا يخجلون حتى اليوم من منع الفلسطيني، أو أنصار فلسطين من التعبير عن قضيتهم، فالرواية ممنوعة لأنها مُخيفة، إنها تُعيد تذكير السياسي الأوروبي بما فعله أسلافه الأقربون، وقد استطاعوا تصدير المذبحة بنجاح منذ منتصف القرن الماضي، إلى فلسطين، وتركوا الصهاينة يتولّون تنفيذها. كأن الشهيّة النازية لا تزال مفتوحة على المجزرة.
* روائي من سورية