حسين سليمان.. عن بدايات الترجمة في الحضارة العربية

26 يناير 2021
فناء داخلي لقصر عباسي في بغداد يعود بناؤه إلى القرن الثاني عشر (Getty)
+ الخط -

لا تزال لحظة ازدهار الفلسفة والعلوم في التاريخ الإسلامي تحظى بمراجعات جديدة تدرس السياقات السياسية والاجتماعية التي أنتجتها، ودور المعرفة في تطوير الفكر والمجتمع ونقلهما من مرحلة إلى أخرى، وغيرها من التساؤلات حول علاقة العلم بالدين وحدودها.

يعود الباحث في التراث حسين سليمان في محاضرته "التصنيف والترجمة في الحضارة العربية"، التي نظّمتها "مكتبة الإسكندرية" افتراضياً أول من أمس الأحد، إلى بدايات التعليم مع تأسيس العباسيّين مدينة بغداد، حيث كان تلقّي العلم يجرى في المساجد التي احتضنت المكتبات وحلقات النقاش العلمية. ويورد المؤرخون وجود سبعة وخمسين مسجداً قدّمت دوراً تعليمية، إلى جانب بيوت العلماء أنفسهم الذين درّسوا فيها طلبتهم.

ويستند سليمان إلى نص وضعه المؤرخ المملوكي شمس الدين الذهبي (1274 - 1348م)، حول فترة تقارب القرن من الزمن، أُطلق عليها اسم "عصر التدوين"، وشكّلت أساس العقل والتفكير لدى العرب والمسلمين طوال العصور اللاحقة. ويشير إلى بدء تدوين الحديث والفقه والتفسير، بمعنى جمعه وتصنيفه، منذ عام 143هـ، بعد أن كان العلم يُنقل شفاهة أو من صحف غير مصنّفة.

عبّرت الترجمة عن حركةٍ مجتمعيّة معقدة في التاريخ العربي

يذكر المحاضر هنا دوافع عديدة قادت إلى نشوء حركة النقل والترجمة بعد ذلك، إذ يعزوها البعض إلى الترجمة الوسيطة التي قام بها العلماء المسيحيون العرب من اليونانية إلى السريانية، ومنها إلى العربية لاحقاً، فيما يعيدها آخرون إلى الاهتمام الذي أبداه العباسيون بحضارات الأمم السابقة، ويُبرزه ما يُروى عن المأمون الذي رأى أرسطو في المنام وحاوره حول أصول العلم.

ويرى سليمان أن الترجمة عبّرت عن حركة مجتمعية معقّدة ساهمت فيها أطراف عدّة، فلم يبذل الخلفاء والولاة الأموال لنقل المعارف فحسب، إنما ساعد في إنجازها قادةٌ عسكريون وتجّار وعلماء أفراد، وهناك روايات كثيرة حول دور هؤلاء جميعهم. ويعكس كل هذا ازدهاراً اقتصادياً في تلك الفترة، إذ كان هناك نحو سبعين مترجماً في بغداد وحدها، كما يدوّن ابن النديم. وقد تُرجمت معظم الآثار عن الإغريق والفرس والهنود، باستثناء المؤلّفات الأدبية والتاريخية، إذ كان التركيز على الفلسفة والعلوم.

تقاضى المترجمون العرب مبالغ طائلة لقاءَ نقلهم المعارف

نقَلَ هذه الكتب علماء متخصّصون في علومهم، بحسب سليمان، الذي أشار إلى أنهم قاموا بنقد ترجماتهم بعد ضبطها، ودليل ذلك ما وضعوه من شروحات ومؤلّفات جديدة حمل بعضُها عناوين "شكوك في.."، والتي احتوت تفكيكاً وتفنيداً لمدوّنات الفلاسفة اليونانيين بشكل أساسي، ليصبح المرجع اليوناني تراثاً بعد أن جدّده وأضاف عليه العلماء العرب.

ويستعرض أبرز المشتغلين في الترجمة في تلك الفترة، مثل إسحق بن حنين، وأبناء موسى بن شاكر، وثابت بن قرة، وعبد الله بن المقفع، والكندي الذي لم يترجم بنفسه بل كانت النصوص المنقولة تأتي إليه ويعدّل عليها ويضبطها. وكان هؤلاء يحصلون على رواتب شهرية يقدّرها المؤرخون بحوالي خمسمئة دينار (تقارب 24 ألف دولار اليوم)، وهو رقم كان يُعتبر مبلغاً طائلاً في ذلك الزمان.

يصل سليمان إلى مسألة مهمة تتعلّق بتطوّر المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية، مستشهداً بمكتبة بخارى التي وصفها ابن سينا، وبنيت في عصر الدولة السامانية، إذ كانت مفهرسة ومصنّفة وتضمّ عشرات آلاف العناوين التي تمّ تأليفها وترجمتها آنذاك، بحيث يطلب الباحث كتاباً فيأتي به موظفون من الرف المخصّص له، ويقدّمون له الورق من أجل النسخ.
ركّز جانبٌ من النقاش الذي أعقب المحاضرة حول وجود "بيت الحكمة" ببغداد من عدمه، إذ تشير المراجع التي ترجمت في التراث العربي إلى حلقات العلماء والتدريس التي أنتجتها ولا تلفت بالمطلق إلى وجود فضاء يدعم الترجمة وترعاه مؤسسة الخلافة، ما يفرض إعادة قراءة دور كبيرة للمجتمع الذي يثبته التاريخ.

المساهمون