للروائي اللبناني حسن داوود (1950) عينُ سينمائي؛ يَكتبُ كَمن يَرى، وينفذ برؤيته إلى ما صنع المشهد المكتوب، وإلى عمق الشخصيات التي يعرض يومياتها. روايته "فرصة لغرام أخير"، الصادرة حديثاً عن دار "نوفل" ببيروت تبدو كتابةً لفنٍّ آخر مع الإبقاء على ثراء السرد الروائي. فهو لا ينزاح بأسلوبهِ من فنٍّ إلى آخر، بقدر ما يجمعُ بين أساليب تجعل سردَهُ يُظْهِرُ بِيُسْر ما لا يَظهر بالسهولة نفسها في الحياة. والكشف الذي يعرضهُ لرهافة الإنسان وعزلته، ومدى حاجته إلى الآخرين كي يؤنسوا وحدته ويشغلوا صمته، لا يتأتّى فقط من موضوع الرواية ــ التي تدور خلال فترة الحَجْر، حيثُ الجميع في بيوتهم تحت نذير الوباء وخطره ــ وإنّما يتأتّى من عين داوود التي تنظرُ إلى العمق، حتّى ولو ظهرت تصف سطح الأشياء وظاهرها.
التلصّص من النافذة على حياة الآخرين موضوع سينمائي منذ البدء، وتذكّرنا الرواية بفيلم ألفرد هيتشكوك "النافذة الخلفية" (1954)، إذ يُقعد حادثٌ مصوراً فوتوغرافياً في شقّته، معطوباً بسبب كسرٍ في ساقه، يراقب الآخرين في الشقق المقابلة له، ويبني تخيّلات عن أحداث حياتهم. لكنّ العطب في رواية داوود أصاب الجميع، حيث أقعد فيروس كورونا الجميع خلف نوافذهم. كُلّ الشخصيات متورّطة بالتلصّص الذي يظهر شاعرياً، وأقرب ما يكون لسينما البولندي كريستوف كيشلوفسكي في شريطه "فيلم قصير عن الحب" (1988)، الذي يبحث في الحبّ، وهو جزء من سلسلة "الوصايا العشر" (1989) التي صنعها كيشلوفسكي كي يقارب الوصايا الدينيّة مقاربةً حداثيّة تظهر صعوبة التزامها. الوصية في فيلمه عن الحبّ: لا تشتهِ امرأةَ غيرك. لكنّ التلصّص سبيلٌ للحبّ، لأنّه في جوهره ترقّب لحياة الآخرين واختيار لمواقيتهم.
كذلك، في رواية داوود، الشخصيات لا تسترق حياة بعضها أو تستبيحها، وإنّما تستلهمها موضوعاً للحبّ. كما في فيلم البولندي جيرزي سكوليموفسكي "أربع ليالي مع آنا" (2008). وهو فيلم شاعري؛ الحبّ فيه، حبٌّ مُعاقَب، لا لكونه متلصّصاً فقط، بل لأنّه غير مُبادِر، مُحايد وسلبي.
لو أننا لم نعش الوباء لَكانت الرواية ديستوبيا متخيَّلة
رواية حسن داوود جزءٌ متآلفٌ مع هذا العالم السينمائي الثريّ، جزءٌ يبدو قادماً من الفنّ إلى الحياة، كي يعطي الحياة معنىً وألفة. ولو أنّنا لم نشهد الوباء جميعاً، لكانت رواية ديستوبيا مُتخيَّلة. إذ الناس محبوسون في بيوتهم. البنايتان المتقابلتان في بيروت ظهرتا كبلدين بعيدين، بينهما حدود، لا شارع، ويصعب تجاوز إحدى البنايتين إلى الأخرى. حتّى إنَّ العالقين في منازلهم، وراء النوافذ، يتحدَّثون لغة جديدة فرضها الوباء، وهي لغة الإشارات. وكأنَّما كُلُّ عالقٍ في شقّته، وداخل مخاوفه ووحدته، يشيرُ للآخر: أنا هنا، هل تراني؟ هل أنا مرئيٌّ بالنسبة إليك؟
في البناية التي لم يصل إليها الوباء، يعيشُ كاتب غادرته الكتابة أو هو مَن غادرها، لا نقع على جواب مؤكّد. لكن الروائي المعتكف، تامر، هو من يحرّك الأحداث، لربما بصفته روائياً معتكفاً. إذ يدفع بصديقه عزّت، وهو كهلٌ آخر، خطوةً للتعبير لجارته في البناية المقابلة التي وصل إليها الوباء، عن أنّه يراقبها في منزلها وهو مهتمٌ بها ويريدُ أن يتواصلا. بالفعل، يكتب عزّت لإلسا في البناية المقابلة رقم الهاتف على كرتونة، وتتّصل به، ويعيشان قصّة غراميةً، بسبب الكهولة يتمثّل الجسد فيها هشاً وحميماً بصورة آسرة.
يخرجان إلى بيروت، حيثُ تظهر بيروت ممتثلةً لعالم الديستوبيا الذي شيّدته الجائحة. عندما تجتاز إلسا بنايتها التي وصل إليها الوباء إلى بناية عزت وتامر، وتدخل منزل عزت الذي ينتظر زوجته أو تنتظره، في بلدٍ آخر هو أستراليا. ينهار عالم العاشقين، فقصتهما بدت جزءاً من التباعد، والتباعد شرط استمرارها. فيما يفشلُ تامر الذي كان يحرّك صديقَه الكهل عزّت، ويشيرُ إليهِ بما يجب أن يفعله مع النّساء؛ يفشل في تجاوز دوره كروائي غادرته الكتابة. إذ قليلاً ما يعيش الكاتب خارج أعماله. مع أنّ تامر يخرج من بنايتهِ ويزور إلسا في بنايتها للاطمئنان عليها، الخطوة التي لم يقم بها عزّت، إلا أنّه يفشل في تحقيق فرصة غرامه الأخير. لأنّ دوره، كما يتّضح في نهاية النّص، هو أن يعود إلى الكتابة. إن كانت المكافأة التي أحضرها الوباء معه لعزّت أن يعيش غرامه العاطفي الأخير، فقد كانت مكافأة الوباء بالنسبة إلى تامر أن يعود إلى الكتابة. الكتابة هي غرامه.
أمّا عن إلسا التي كانت موضوعاً بالنسبة إلى الرجلين، فقد كانت بدورها تنتظر زوجاً غائباً في أفريقيا وتعيش مع والدته التي تموت بسبب الوباء، وعاملة المنزل التي تهرب من المنزل وتُرحّل إلى بلدها أيضاً بتحريضٍ من الوباء. بهذه الصورة، غَيّر الوباء العلاقات التي تجمع البشر ببعضهم. وإذا كان كلّ شيء متوقّفاً خارج المنزل، السيارات والمقاهي والمطارات، إلّا أنّ عالم الداخل عاصف بالتغيّرات. وقد اختارها الروائي تغيّرات تحدثُ على مشارف النهاية. بالتالي، إنّها علاقات دراميّة بطبيعتها. حتّى لو ظهر الفراق الذي تنتهي إليهِ فراقاً بارداً لا يحمل مواجهةً. وكأنّما جميعهم، الشخصيات الثلاث، يدركون بفعل التجربة فضيلة الاكتفاء، فضيلة المؤقّت والعابر وعميق الأثر. إنّهم جميعهم بشرٌ كلّ ما يفعلونه أنّهم ينتظرون خلف نوافذهم. وبينما هم ينتظرون، يعدّون أنفسهم لانتظار من غير نهاية.
سرد عن طارئ يقتحم سكينة الناس قبل أن يتركهم للرتابة
يُحضر تامر قطة لتكسر قتامة وحدته، فيما ساء عزّت أنّ إلسا كسرت رتابة انتظاره لزوجته. إنّه مُتعلّق بالرتابة، لا بالزوجة، إذ عندما ترجع الزوجة يُغادِرُ هُوَ. أمّا إلسا، موضوع الرجلين، فقد جعلت منهما معاً موضوعاً لكسر رتابة المجهول الذي يحيق بمصير زوجها.
حسن داوود صاحب روايات "مئة وثمانون غروباً" و"غناء البطريق" و"بناية ماتيلد"، وهي روايات تتحدّث عن البشر في الأمكنة، وعن الصِلات التي يعقدونها مع الأمكنة، أو بصفتهم محكومين بالأمكنة التي ترسم طباعهم ومسار علاقاتهم. ويظهر الوباء في "فرصة لغرام أخير" مجرّد ذريعة، فالرواية ليست عن فيروس كورونا، وإنّما عن أولئك الذين دَاخَل الطارئ سكينتهم في المكان، شغلهم الطارئ، ومن ثمّ أعادهم إلى سكينة الرتابة مجدّداً، ممتلئين بالحزن، يتوقون للحبّ، ومتآلفين مع الوحدة.
* روائي من سورية