ترك جان آموس كومينسكي (1592 - 1670) قرابة خمسين مؤلَّفاً في حقلَي الفلسفة والتدريس، ركّز في معظمها على تطوير أساليب التعليم، والذي كان يرى أنّه العلاج الوحيد للأزمة الثقافية العميقة التي كانت تعيشُها أوروبا في عصره.
انطلقت إصلاحات كومينسكي من ملاحظاته الكثيرة حول النظام التعليمي، والتي جمعها خلال عمله مدرّساً للغة اللاتينية؛ هذا النظام الذي كان يستثني الإناث من حقّ التعليم إلى جانب الذكور الفقراء، ويقوم على الحشو، ويفتقر إلى تحديد الأهداف، فضلاً عن استناد العملية التعليمية برمّتها إلى أساليب صارمة وعنيفة في كثير من الأحيان، وهو ما جعله يطلق وصف "مسالخ العقول" على المؤسّسات التعليمية القائمة.
كان كومينسكي، الذي يُعدّ من رموز "الواقعية الحسّية"، من أوائل الذين نادوا بتسلية الطفلِ خلال العملية التعليمية. وكان يرى أنّ المعرفة تقوم على ثلاثة عناصر، هي الحواس والعقل والكشف الإلهي، في حين استندَت رؤيتُه للتعليم إلى تسعة مبادئ أساسية؛ من بينها: تبسيطُ الفكرة أو المعلومة، وتقديمها إلى الطفل بشكلٍ مباشر لا عن طريق الترميز، وتطبيق ما يجري تعليمه بشكلٍ عملي، والتدرُّج في شرح أجزاء الموضوع من الأسهل إلى الأعقد وتبيان العلاقات بينها، وعدم شرح أكثر من موضوعٍ للمتعلّم في آن واحد.
كان النظام التعليمي في عصره يستثني الإناث والذكور الفقراء
وإلى جانب ذلك، ابتكر التربويُّ واللغويُّ التشيكي ــ المولود في إقليم مورافيا الواقع بجمهورية التشيك حالياً ــ طُرُقاً علمية لتعليم اللغات، وكان ذلك في كتابه الأبرز "باب اللغات المفتوح"، الذي شكّل فتحاً في تعليم اللغات بشكل عام، وبشكلٍ خاص اللاتينية؛ اللغة التي كانت يكتب بها أعماله، وقد كان ذلك أمراً شائعاً في وقته. كما عمل على ابتكار طريقةٍ جديدة في تصنيف الموسوعات؛ حيث خالَف الطريقة المعتمدة في موسوعات العصور الوسطى، مُقترحاً تصنيفاتٍ لمختلف المعارف تبدأ بالسهل وتتدرّج إلى الأكثر صعوبةً وتعقيداً.
في "غاليري محمّد راسم" بالجزائر العاصمة، يتواصل حتى بعد غد الإثنين، الرابع والعشرين من الشهر الجاري، معرضٌ بعنوان "إرث جان آموس كومينسكي"، يستعيد حياة ومسار التربوي التشيكي الذي يُلقَّب بـ"أبي التربية الحديثة".
يضمّ المعرض مجموعةً من اللوحات التي تُسلّط الضوء على حياة كومينسكي وأعماله، والأثر الذي أحدثته أفكاره في مجال التعليم؛ إن كان في بلده أو في العالَم؛ فالرجُل الذي ظلّت مؤلّفاتُه مجهولةً في عصره ولم يجر التعرُّف إلى أفكاره والعمل بها إلّا بعد قرنَين كاملَين، تحوّل إلى الأب الروحي للمؤسّسات التعليمية الحديثة في أوروبا.
ومِن أمثلة ذلك الاعتراف التي يُبرزها المعرض، "وسامُ كومينيوس" (كومينيوس هو الاسم اللاتيني لـ كومينسكي) الذي أنشأته منظّمة "اليونسكو" ووزارة التربية والشباب والرياضة في التشيك، ويُمنَح كلَّ ثلاث سنوات لخبراء في مجال التعليم نظيرَ إنجازات بارزة قدّموها في هذا الحقل.