ثلاثة أسئلة للكاتب

07 سبتمبر 2023
بورتريه للكاتب الروسي فسيفولود غارشين، لـ إيليا رِبين، 1884
+ الخط -

بعد سؤال كيف أَكتب؟ يُواجه الكُتَّاب في بداياتهم سؤالًا آخر؛ كيف أَنشر؟ وبعد النشر يظهر السؤال الأكثر تمنُّعًا على الإحاطة، وهو كيف أُقرأ؟
 
يُوجد اتّفاقٌ شائع لدى الكُتَّاب الذين خاضوا تجارب الكتابة والنشر والقراءة، أنَّ كلَّ ما يعقب لحظة الكتابة غير ذي بال. وهذا صحيح، مع أنَّه قول عام وخادع. فالكُتَّاب الذين عرفناهم وتأثّرنا بهم، قد عرفناهم بعد أن كُتِبَ عنهم، بعد أن حقّقوا مقروئيّة ما. ونعرف بعضهم لأنَّهم نالوا جوائز، ولأنَّهم نشروا كُتبَهم أساسًا.

لكن في الثقافة العربية التي لا تحفل بالقراءة، يحيلُ نوعٌ من الكُتَّاب "المُكرَّسين" مسائل الكتابة والنشر والقراءة إلى تفكير احتكاري. يُشبه احتكار السلطة لحقّ القول، يُشبه احتكار العرَّافين للمعرفة. تفكير يجعل الكاتب الذي يعوز النصيحة عن كيف يكتب أو ينشر روايته؛ يشعر بأنَّه ينتمي إلى درجة أقلّ. فدمُه ليس أزرق. وما يعوزه - وفق هذا النوع المُكرَّس من الكتّاب - ليس الموهبة أو الخبرة أو التجربة؛ بل الأحقّية. ويشعر أمام فداحة أقوال تحرمه الحقّ في الكتابة؛ أنَّه إنسان أدنى، لأنَّه فكّر بالكتابة والنشر، وفكّر بحقّه أن يصير مقروءًا وسط الهزائم التي تحيق بالعرب برمّتهم.

"انتشار" لا يحقّق القراءة، بقدر ما يصنع وهمَ القراءة

في الظاهر، يبدو النشر في مسافة بين انشغالَي الكتابة والقراءة. ولهذا الترتيب شيءٌ من الوجاهة. فالناشر الجيّد يُحقّق وصولًا ما للقارئ. والناشر الجيّد بتعاريف بسيطة؛ هو من يُعطي الكِتاب حقّه من الاهتمام، بدءًا من لجان القراءة إلى التحرير والتدقيق وتسويق الكتاب. أيضًا في التسويق، يُضاف معيارٌ فرضَه العصر، وهو نشاط صفحات الدار على وسائل التواصل الاجتماعي. ولو أنَّ هذا النوع من الانتشار، لا يحقّق القراءة، بقدر ما يصنع وهمَ القراءة.

باختصار، يُمكن المجازفة بالقول، إنَّ معايير الناشر الجيّد بالمعنى الذي يرفع كاتبًا، ويُعطي الفرصة لنمو تجربة كاتب، لم تعد موجودة. والدعاية صارت أسبقَ لدى كثير من الناشرين إلى درجة، قد يميل ناشر إلى اختيار كاتب له جمهوره على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنَّ لديه جمهورًا يصنع حالة وَهْم القراءة. وَوهْم أنَّ الكاتب رائج.

أقول وَهْم، لأنَّه من مشاهدات عديدة، يكتفي ذلك الجمهور بأن ينشر صورة للكِتاب، ويطمح لأن يصل بطريقة ما إلى الكاتب، كي ينشر صورة معه. وهكذا تُغلَق حلقة القراءة من غير أن نرى أو نسمع تفصيلًا عن القراءة نفسها. فهذا النوع من القُرّاء، قليلًا ما نجده يكتب عن تجربة القراءة، عمَّا شعر به حيال الكِتاب، عمَّا أضاف له الكتاب، أو إن لم يُضف. على الأقل، عمَّا فكّر به حيال الكتاب.

بالطبع، أحيانًا يُواجه المرء كتابًا لا يترك لديه أدنى انطباع. ويحدث أن يُواجه الكتاب نفسه قارئًا صامتًا، لا ينفعل، لا يُعبّر. لكن هذا الصنف، لا يحرص على تصوير الكتاب وتصوير الكاتب وتصوير طقوس القراءة الصامتة. كما لا يهتمّ القارئ الصامت بالفعل بتصدير ترشيحات لكتُبٍ لم يقرأها. سلوكٌ بات شائعًا حتى لدى صحافيّين مشهود لهم. وكأنَّما وهم القراءة، صار جائحة. وكأنَّما من العار، ألّا تُساهم بدورك في المهرجان الزائف للقراءة الذي تعتقد أنَّه يُكرّسها كعادة. وهكذا، فالكاتب الذي يتساءل كيف أُقرَأ؟ يسقط في حبائل وهم آخر، وهو وهم أنَّه قُرِئ.

في بيئة النشر العربي، الأسئلة الثلاثة أسئلة صعبة، حدًّا يُمكن للمرء أن يرى الكتابة أسهل الأجوبة - مع أنَّه من المفروض أن يكون العكس. ويُمكن القول، في المبدأ؛ الكتابة الجيّدة تقود إلى الناشر الجيّد، وتقود إلى القارئ الجيّد، ومسألة التحقّق تعود إلى الكتابة نفسها في النهاية. 
 

* روائي من سورية

 
المساهمون