تمثيل فجّ لديستوبيا أورويل

18 أكتوبر 2023
من معرض لأعمال ناجي العلي
+ الخط -

إثر الحصار الأخير الذي فرضته الخوارزميات الخاصة بعدد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام، لم يعد من باب التحليل الأدبي القول إنَّنا نعيش في ديستوبيا الروائي الإنكليزي جورج أورويل، التي رسم قوانينها في روايته "1984" كما لو أنَّه رسم تصوّراً مغلقاً ونهائياً عن شكل العالم الذي نعيش فيه. حتَّى بخصوص هذا المقال، يكفي ذكر إشارة بسيطة عن العدوان الذي يقوم به كيان الاحتلال ضدَّ أهالي غزة حتى تقيّد المنصات المختلفة ظهوره على الصفحات، وتحدَّ من انتشاره. 

إذاً، بموازاة العدوان الصارخ الذي يجري على الناس العُزَّل في بيوتهم، في تخطيط من الواضح أنَّه قد سبق العدوان؛ تخطيط يفضي أو يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، أو قطع شوط لتصفيتها عبر تهجير أهالي غزة، بموازاة ذلك، يحدثُ عدوان على الحقيقة. أساساً قيام كيان الاحتلال بالمبدأ، لم يكن إلا عدواناً على الحقيقة. وفي الحروب، كثيراً ما يقوم المعتدي بتزييف الحقائق كونه يفتقد الذريعة لتفسير عدوانه. هذه الأيام يجري التزييف بمعونة الذكاء الاصطناعي الذي يراقب آراء البشر ويحاول رسم صورة تعاطفهم باتجاهٍ واحد، حتى بدا أنَّ المعسكر المناصر لفلسطين قد يفقد الأدوات التي بإمكانهِ من خلالها إيصال حقيقة ما يجري. ببساطة، لأنَّنا نتحرك عبر وسائل يجري تجييرها لصالح السردية الصهيونية.

يعكسون الحقائق لمحاربة الحقائق والنيابة عنها بالأكاذيب

باختصار، جهدنا محاصر، كلماتنا مقيدة، وصولنا محدود. والأخطر، أنَّ هذا يجري فيما العدوان يستمر على الأرض وفي الاتجاهات كافة، وكأنَّما المحتل يبحث عن أنواع الحشد كافة في عدوانه. حداً بدا معه كلام وزير الخارجية الأميركي كلاماً زائداً بقوله إنَّه جاء إلى "إسرائيل" لا كوزير للخارجية الأميركية، وإنَّما "كيهودي".
 
ليس الخطاب الأميركي الذي يؤيد كيان الاحتلال غريباً. لكن مع ذلك، لا يمكن للمراقب ألا يستغرب هذا التصريح الذي يتلاعب بالإحساس الديني. وليس واضحاً لمن يوجّهه؛ أيقول للمسلمين أنا يهودي في هذا الصراع؟ أيقول للعرب والفلسطينيين أنا يهودي في هذا الصراع؟ أم يقول للصهاينة الذين لطالما بذلوا كل جهد ممكن كي يلصقوا مشروعهم الصهيوني بالدين اليهودي، بقوله لهم: أرى عدوانكم السافر مقدَّساً؟ 

في الأحوال جميعها، التصريح يختزل ما دأبت الصهيونية على تسويقه بأنَّ مشروعها الاستيطاني مشروع إلهي، وبأنَّ فلسطين أرض الميعاد. وهو تلاعب بالعواطف، واحتكارٌ لوجهٍ زائف أساساً من وجوه الصراع، الذي ينطوي على غزو ونهب واستباحة وحشية.

يسخّر الغرب الذكاء الاصطناعي لتزييف الحقائق حول غزة

مجدّداً يحسب المرء نفسه في رواية أورويل وهو يقرأ شكوك البيت الأبيض حول تصريح سابق للرئيس الأميركي، الذي تحدّث فيه عن قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين. وقد ساهم خطابه المبكر -باعتباره ممثلاً رسمياً لبلده- أيما مساهمة في تضليل الحقائق، وتجييش الرأي العالمي ضدَّ أصحاب الأرض. وهذا النفي اللاحق لما حقَّقَ غرضه، أمرٌ نراه في ديستوبيا أورويل لجهة الاستخدام الوظيفي والآني للحقائق، أو بصورة أدق في المسألة الفلسطينية؛ لغياب الحقائق، لعكس الحقائق، لمحاربة الحقائق، والنيابة عنها بالأكاذيب.

السلوك الذي تسلكه أميركا عبر منصاتها، وفي خطابها الرسمي يجعلنا ندرك أنَّنا مواطنون في ديستوبيا "الأخ الكبير" الذي يتلاعب بعواطف وعقول الناس، ويرسم مصيرهم، ويصنع حتَّى خياراتهم الوجدانية. وهو أمر يفسّر إلحاح الجمهور العربي على "المؤثرين" كي يقولوا كلمتهم، سِواء أكانوا نجوم رياضة أم فنانين.

وما يمنع المراقب عن تبنّي المقاربة بين الديستوبيا التي تفرضها الرأسمالية الأميركية على العالم، وبين الرواية الشهيرة، هي الاختراقات التي يحاول ناشطون حول العالم القيام بها لصالح السردية الفلسطينية. كما أنَّ ثمَّة بالفعل، أطفالاً في الجِوار، يُقتلون. ويبقى على من يشهد هذه الأيام سفالة خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ أن يلصق وجدانه بالزمن الفلسطيني، وأن يرهن وجدانه إلى الطفل الفلسطيني الأعزل حتى على فيسبوك.


* روائي من سورية

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون