- تركز الأنطولوجيا على قصيدة النثر كشكل تعبيري معاصر، مستعرضة ذاتية الشاعرة الفلسطينية وفرديتها في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية، وتشجع على التجارب الجديدة في الشعر.
- تسلط الضوء على صوت المرأة الفلسطينية وتجاربها في ظل الحرب والاحتلال، معبرة عن موضوعات كالهوية، الأرض، الحب، والمقاومة، وتؤكد على أهمية الشعر كوسيلة للتعبير والمقاومة.
"إنّه ثمرة حوارٍ مع المترجم محمد قاسمي، الذي سبقَ وترجم شعري إلى الفرنسية. سألني ماذا يُمكن أن نفعل لشاعرات فلسطين، وخاصّة في ظلِّ العدوان الإسرائيلي على غزّة، فجاءت الفكرة الأصليّة حول اختيار وترجمة وتقديم عشر شاعرات فلسطينيات إلى اللغة والثقافة الفرنسية. ولكن سرعان ما تطوّر النقاش إلى إعداد أنطولوجيا ضخمة تحمل عنوان "أرض متشظّية"، في محاولة لتقديم ذاتيّة الشاعرة الفلسطينية وفرديّتها في مواجهة الخارج القبيح، فكريّاً وسياسيّاً".
بهذه الكلمات تشرح الشاعرة الفلسطينية نداء يونس لـ"العربي الجديد" فكرة أنطولوجيا "تلك الكلمة المقدَّسة"، التي صدرت حديثاً نسختُها العربية عن منشورات "مرفأ" في بيروت، لتكون بذلك "الأنطولوجيا، الأولى من نوعها، التي تقدّم القصيدة الفلسطينية الأنثى"، كما تقول يونس في مقدّمتها للمختارات، والتي جاءت "على أساس بحث تاريخي ونقدي جرى بموجبه اختيار شاعرات دون غيرهنّ".
تقع الأنطولوجيا في 300 صفحة، و"تقدّم سيراً ونصوصاً شعرية لثلاث وعشرين شاعرة، يُمثّلن أجيالاً مُتعاقبة من الشاعرات الفلسطينيات المعاصرات اللواتي يكتبن قصيدة النثر من المهجر والمنافي، ومن فلسطين المحتلّة عام 1948، ومن الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة الذي يعاني الإبادة جماعية"، كما تقول يونس: "هناك حيث الكلمة المقدّسة، قد تعني الله، القصيدة، فلسطين، الجسد، المرأة، الحبّ؛ وهي موضوعات جوهرية في نصوص الشاعرات".
ربما لأن الخيار وقَع على الشاعرات المُعاصرات اللواتي يكتُبن قصيدة النثر منذ سبعينيات القرن المنصرم، لن نرى أسماء مثل طوقان والجيوسي وغيرهنّ، فجامعة المختارات كما تقول لـ"العربي الجديد" أرادت أن "تبتعد عن الجثّة المُحنّطة التي تُسمَّى القصيدة العمودية، فحالتنا لا تحتمل التكلّس في قوالب ولا الاكتفاء بالوصف. من هنا كان لا بدَّ أن نشجّع التجارب الجديدة، وأن نكتب التجربة، صارخين بصوت عالٍ ضدّ كلّ شيء، ضدّ كلّ قيد".
بين ذاكرة تتحرّك في مواجهة استلاب الهوية والأرض، وبين الذات التي تصرُّ على أنها هناك، تتدفّق قصائد الشاعرات الفلسطينيات كماء الحياة في الأنابيب العاقرة. ورغم أنّ أنطولوجيات الشعر عادة ما تعكس ذائقة من يختارها، فإن يونس -كما تبرّر في مقدّمتها- قد اتّبعت منهجاً تاريخياً ونقديّاً تتجاوز بهما رغبتها الشخصية في إعداد أنطولوجيا، فمنهجها النقدي، كما بيّنت لـ"العربي الجديد"، يقوم على أساس "تحليل الخطاب الشعري، وتحديد التمثيلات وخصوصيات الشعر الذي يجري إنتاجه في جغرافية، وبالتالي عدم تكرار تجارب متشابهة". أما المنهج التاريخي، فقد أوضحت أنها "قامت بعملية بحث وقراءة في الوثائق والأرشيف لكلّ ما كُتب كقصيدة نثر، منذ السبعينيات حتى الآن، وعلى هذا الأساس اختارت الفريد في التجربة، انطلاقاً من معرفتها بالشعر الفلسطيني".
سِير ونصوص لثلاث وعشرين شاعرةً يُمثّلن أجيالاً مختلفة
إنها، إذاً، محاولة لنقل الصوت الشعري للمرأة الفلسطينية، خصوصاً في ظلّ الحرب ومحاولات المحو والإلغاء المتواصلة منذ 76 عاماً حتى الآن، إلى آفاق جديدة ليشكّل خطاباً ثقافياً وشعريّاً يلفت النظر إلى قضية شعب يرفض أن يموت، فقد "حاولتُ أن أجمع أكبر عدد من الأصوات الشعرية التي تكتبها شاعرات فلسطينيات معاصرات، وتوفّر نظرة بانورامية على الشعر الذي تكتبه الشاعرة الفلسطينية منذ سبعينيات القرن العشرين في المنافي والوطن المحتلّ؛ وتمنح من خلال قصائدهنّ، على اختلافاتها وتباين عوالمها وتشابك طُرق الحكي فيها، الأفق لفَهم أوسع لتشكّل السرد الشعري في فلسطين وفي الدياسبورا (الشتات) وموضوعاته"، وتُتابع يونس حديثها لـ"العربي الجديد": "ضمن هذا المعنى كانت هناك أسماء في الخارج بعيدة عن المسرح الشعري والثقافي في العالم العربي، كما احتوت المختارات على أسماء غير معروفة. كلّ ذلك بهدف توفير فرصة التلاقي وتلافي البَتر، وتحقيق الوحدة من خلال الشعر".
سيُلاحظ القارئ للنصوص الشعرية حضور التقسيم الجغرافي بشكل واضح، غير أنّ هذا التقسيم، والذي يرتبط بشكل عضوي بالتقسيم السياسي، وبالتالي أماكن توزُّع الشاعرات، لا يعكس البُعد السياسي القسري الذي فُرض على الشعب الفلسطيني وحده، بل يعكس أيضاً، كما توضّح يونس: "علامة ثقافية لشعر هذه الجغرافية الاستثنائية والمُفكّكة، بل والفريدة في تاريخ الشعوب، كما يُشكّل عتبة لفهم كيف تُفكّر الشاعرات، وموضوعات اهتمامهنّ، وموقع الجسد الأنثوي وجسد فلسطين من شعرهنّ الذي تمنحه هذه الجغرافية خصوصيته اللافتة، ويُمكّن ليس فقط من الوقوف على شكل الصوت الشعري عبر هذه الأرض المحتلّة والمنافي واختلافاته، بل يُلقي الضوء على حركة الجسد الأنثوي في القصيدة وخارجها".
ضمن هذا المعنى ستكون شاعرات المنافي: نتالي حنظل، ونعومي شهاب ناي، ورفيف زيادة، وسهير حمّاد، وسمر عبد الجابر، وكوليت أبو حسين، وجمانة مصطفى، بمثابة صرخة متشظّية بين الماضي والحاضر، حيث لا مكان ولا وقت لتذكُّر حتى الأحلام. هكذا سنقرأ أنّ والد شهاب ناي "سبح في الحزن/ ووصل إلى الجانب الآخر/ ثم حاول أن يصنع حياة جديدة/ لكن شيئاً ما بداخله كان يجذف دائماً نحو البيت". مع نتالي حنظل سنتعرف على "جدار يُجهز على أنفاسنا/ ساعة من الوحشيّة كل يوم/ تُسيّج القلوب التي بالكاد تنبض/ خفقان الأوراق في حدائقنا الجافّة/ الحرارة في غزّة وأريحا/ تُعيد لنا الأحلام التي لم يتّسع الوقت أبداً لنتذكرها". ومع رفيف سنتذكّر اللسان العربي "قبل أن يحتلوا لغتي أيضاً/ قبل أن يستعمروا ذاكرتها أيضاً".
أما شاعرات فلسطين المحتلّة، فسيتحرّكن في مدار مختلف، مدار الذاكرة والهوية وواقع القمع وأسئلة الذات وتمرّدها الشرس، ربما لهذا تقول شيخة حليوى "نرضع حليب الأُمّ/ نُولد بأعضاء تناسلية سليمة/ ولسان أخرس". لكن مع ذلك، ذات الشاعرة الفلسطينية لن ترضى بالخضوع والاستسلام، وستُحاول ريم غنايم "كأي غريب يعبثُ في شفق المحتَمل/ أحاوِلُ/ كأي مَنحوسٍ/ أن أقبضَ على عُمدان السّماء فلا تهوي أرضاً". هنا تحديداً ستكون المخيّلة هي المخلّص من الواقع، وهي التي تسهر عليه، ربما لهذا تقول أسماء عزايزة "مُشعلو أفران النازيّة مجرّد سطر محشوّ في فصل تاريخ سأُمتحن فيه".
محاولة تقديم ذاتيّة الشاعرة الفلسطينية في ظلّ واقع مُحتلّ
شاعرات الضفّة والقدس المحتلّة سيتحرّكن بشكل أقرب إلى الذات دون التخلّي عن رمزية الاسم والذاكرة، حيث يمشين في حقل ألغام مزدوج لا يُعلن أحد مسؤولية عنه، لكنّه واقع معيش وحقيقي ومُؤلم، هناك "حيث أشياء لا يُمكن إهمالها... وحيث الدمع في الشراشف وما يُشير إليه". كلّ ذلك على "مسافة واحدة من كلّ ما يتحرّك/ الجسد وحراسته/ الألوهة وصورها/ العزلة ومفرداتها/ لزوجة القِدَم وثقله/ العُري والارتجاف معه/ الصعود لكن ليس في القشعريرة... مزاجي وانحرافاته نحو التفاهة/ الشتائم/ التخريب، التجريب، التخلي/ البصاق/ الحزن والخسارة/ والتفكير بأن حدود وجودي/ "تنتهي حيث تنتهي أصابع"/ لكنّه جسدي "كوخ مؤجّر" كما تقول نداء يونس نفسها. وهناك حيث "جرّدني الخواء من رغبة آسفة بالضحك/ من قدرة شرهة على الحبّ/ من دافعٍ عَطِشٍ للعطاء" كما تقول آمنة أبو صفط. وهناك حيث "كان الضحك ملء الجرار/ كان حبّنا محظوراً/ يُشبه بلادنا التي تمنع تجمُّع أكثر من عشرة أشخاص في مكان عامّ "، كما تقول رجاء غانم. هنا أيضاً سنقرأ قصائد لكلّ من جدل القاسم، ورزان بنّورة، ورولا سرحان، وهلا الشروف، وداليا طه، ومايا أبو الحيّات.
صوت الشاعرات الغزّاويات سيكون هو كذلك ممثّلاً في المختارات، وسيكون له رمزية خاصة، وسيشعر القارئ بتعاطُف كبير معه، لا سيما في ظلّ ما تتعرض له غزّة من إبادة جماعية يرتكبها كيان الاحتلال منذ أكثر من سبعة أشهر، في ظل تواطؤ غربي واضح، واستسلام "وقائي" ورسمي عربي لافت.
إيناس سلطان ستفعل كل شيء "لأسباب جمالية بحتة"، وفاتنة الغرّة ستخاطب الحب "حتى يأتي"، وستحاول أن "تقنعه بأن في هذه الغرفة امرأة تنتظر". وبينما تشعر منى الصدر بأنها في "مدينة تضحك منها الخرافات/ وتعلّم الأمهات أبناءها بعضاً من التراث للهوية ولشيء من الموضة/ هنا مدينة أجهضت أساطيرها"، سيكون قلب هند جودة "موج يطلق أسماكه الضالّة/ يحتضنها بحر كامل الملح يزداد بها اتساعاً ودونه تضيق".
لا تخفي نداء يونس رغبتها بأنها كانت تتمنّى أن تعدَّ أنطولوجيا بعنوان "شاعراتي الفلسطينيات"، على غرار ما فعله الشاعر الفرنسي غيوفيك، الذي أعدّ أنطولوجيا الشعر الهنغاري بالفرنسية، وأطلق عليها "شعرائي الهنغاريون". وتختم حديثها إلى "العربي الجديد" بالقول: "هدفي محددٌ هو إيصال الصوت وما يمثّله بأكبر درجة ممكنة. وعليه، فقد كنتُ أتتبّع السردَ لا الأسماء، الأسماء مهمّة لكن الأهم ما تقول، وهذا هو هدفي الرئيس من الأنطولوجيا: السرد الشعري في فلسطين. هكذا قرأت قصائدهنّ؛ وهكذا من خلال الشعر أيضاً أرسم الحكاية، والقصائد التي اخترتها هي تلك الحكاية".
* شاعر ومترجم مقيم في إسبانيا