مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، عاد الفنان الهولندي بيت موندريان إلى باريس، حيث بدأت الشرائط تتسلّل إلى لوحته لتقسّمها إلى مربّعات ومستطيلات لن تغادرها حتى رحيله، والتي أتت بعد سلسلة مقالات نشرها خلال عزلةٍ فرضتها الحرب، حيث حاول الدمج بين فنّه وبين نزعته الصوفية.
الفنان الذي تمرّ على ميلاده مئة وخمسون عاماً (1872 - 1944)، يُنظر إليه كأحد أبرز روّاد التجريد في العالم، حيث قدّم تنظيرات معمّقة حول تنقية الفن من العناصر التي لا تنتمي إليه، وذلك في "نظرية الفن الجديدة" التي وضعها مع مواطنه الفنان تيو فان دوسبورخ.
حتى السابع والعشرين من الشهر المقبل، يتواصل في "موديك - متحف الثقافات" في مدينة ميلانو الإيطالية معرض "من التصوير إلى التجريد" الذي افتُتح نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ويضيء لحظة الانتقال التي عاشها الفنان وعبّر عنها بالكتابة والرسم.
يضمّ المعرض أعمالاً تنتمي إلى بدايات موندريان، المولود في بلدة أمرسفورت الهولندية حيث تلّقى دروس الفنّ الأولى على يدَيْ والده وعمّه، قبل أن يلتحق بـ"أكاديمية الفنون الجميلة" في أمستردام ليسير على منوالهما، حيث عُيّن معلّماً للرسم في إحدى المدارس الابتدائية، وظلّ أثرُ تلك المرحلة حاضراً في حياته من خلال سعيه إلى تعلّم أساليب وتقنيات متنوّعة ضمن تجريب دائم، قاده إلى رسم تلك الشبكيات التي اشتهر بها.
تُهيمن على تلك اللوحات مشاهد رعوية من حقول وأنهار وطواحين الهواء في ريف بلاده، في سياق المدرسة الانطباعية الهولندية التي تبنّاها حتى عام 1911؛ حين رسم لوحته الشهيرة "الشجرة الرمادية" التي تُعدّ محطّةً فاصلة في تجربته، لينتقل بعدها إلى التكعيبية وصولاً إلى مربّعاته السوداء والملوّنة، في اختزال ملغِز للطبيعة، عبر قليل من الخطوط المتقاطعة بينها.
منظر الخراب الذي خلّفته الحرب الكونية الأولى كان سبباً في توجّه موندريان نحو الثيوصوفية التي تمزج بين الغنّوصية المسيحية وفلسفات الشرق الأقصى، حيث كتب عام 1914: "أقوم ببناء الخطوط وتركيبات الألوان على سطح مستوٍ، من أجل التعبير عن الجمال العام بأقصى قدر من الوعي"، موضحاً أن بحثه عن الحقيقة يجعله يجرّد كلّ شيء للوصول إلى جوهره، لتظهر تلك الخطوط الأفقية والعمودية في أعماله، والتي يكثّف من خلالها الجمال كما يراه ويدركه.
يخصّص المنظمون جانباً من المعرض للّوحات التي تمثّل تلك المرحلة الانتقالية، حيث رسم الأشجار في الغابة بثلاثة ألوان فقط لكنها تحمل تدرّجات عديدة، والتي وصفها بقوله: "ألوان الطبيعة لا يمكن استنساخها على قماش"، مواصلاً التركيز على الخطوط أكثر من اللون ليرسم أشكالاً أوّلية تُخفي خلفها الشجر الذي كان مفتاح التجريد لديه.
عند تلك الأشكال الهندسية والشرائط، ربّما توقّفت تجربة الفنان الهولندي عن التطوّر، لكنّها أثّرت بشدّة على مجالات عديدة في العمارة الحديثة والتصميم الداخلي والديكور والأثاث وواجهات المحال التجارية، وتصميم الأجهزة الكهربائية أيضاً، حيث يبرز القسم الأخير من المعرض تأثيرات رسوماته على المعماريّ كارلو سكاربا في عدد من مبانيه، والمصمّم جوليو كابيليني الذي قدّم أعمالاً تعتمد مدرسة "دي ستايل" التي تختزل مجمل رؤى موندريان في التجريد.