لم ينتظر الفلسطيني لحظة حقيقة أكثر سطوعاً ووضوحاً ولمعاناً من هذه اللحظة: كيان الاحتلال في قفص الاتهام أخيراً. لم يدفع العالم أن يفعل ما يجري الآن ولا لمرّة واحدة منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً من المذبحة والتهجير والبطش، لكنّ لحظة غزّة، وقد جيء بها جثماناً مدمى، مفرط الوضوح، ومفرط الصوت الذي أصمّ الآذان، لتخرُج "كيب تاون" من لا شيء السياسة ولا شيء الجغرافية ولا شيء الممكن ولا شيء المتوقَّع، تُشعل من جديد نوراً يلوح في نهاية نفق مظلم.
كان لا بدّ للدم الفلسطيني، للأسف، أن يكون فوّاراً حتى تُستعاد دوزنة معايير العالم من جديد، واضحة وصارمة أمام القتلة والمجرمين، بعد أن همدت هذه المعايير إلى مستويات الصفر والنوم والغياب، وباتت فكرة تهجير شعب كامل ونفيه، بل والقضاء عليه، متاحةً وممكنة في ظلّ صمت غير مفهوم، وانعدام حيلة لم يذهب إليها أحد في تاريخ البشرية كلّها. لكن المعايير الجديدة البازغة الآن وإذا بها تفرز من جملة ما تفرز نهايةً لمشروع لم تكن فكرة أفوله وتحطُّمه بمثل هذا الوضوح، بالاتكاء على الكثير من مقولات التاريخ التي تعيد نصاب الأمور كلّما صارت الصورة أكثر ضبابية: "إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها".
لقد اكتشف الفلسطيني في المئة يوم الأخيرة، ومن خلفه كلّ الذين روّعتهم مشاهد وأهوال تهشّم صورة القانون الدولي والشرائع الدولية وحقوق الإنسان أمامهم بشكل لا يقبل التأويل، رداءة من يهتفون بصوته ومن ينشدون آلامه في كلّ محفل من محافل العالم، واكتشف من جملة ما اكتشف كيف انهار القانون الدولي وتلطّخ وجهُه في الطين تحت وقع الصواريخ العمياء التي ضربت في كلّ مكان.
تُستعاد ذكرى مانديلا بما يليق برحلته النضالية الممتدّة
استيقظ العالم على كذبة رديئة طال ترديدها اسمها الإنسانية، ليكتشف أنّ الإنسانية محض اختراع أبيض، بارد وانتقائي ومقيت، يُصار إلى التغنّي بها حين تكون الضحية بيضاء، وغربية، وابنة عمّ الأمم المتحدة، سليلة تقسيمة العالم بُعيد الحرب العالمية الثانية. واكتشف على كومة ما اكتشف "تاريخ الكذب"، لا على طريقة جاك دريدا في تفكيك المفهوم واستعادة الأصول، بل على طريقة حاملي صوت العالم في الكذب وغضّ الطرف وازدواجية المعايير المعيبة والمضحكة في ذات الوقت.
حملت جنوب أفريقيا صوت الضحايا بكلّ ما فيه من صرخات ورعب ودم، وحلّقت به بعيداً إلى أرفع محاكم العالم مكانةً. كان التمثيل الأفريقي الجنوبي جديراً باللحظة، وجديراً بتمثيلها، وجديراً بأن يأخذ صوتها، لطالما كان الأفريقي في رحلة عذابه الطويلة مقاتلاً نقيّاً لا يستسلم ليأس اللحظة ولا مغريات الطريق ولا للأصوات التي تهتف به أن يجلس جانباً أو يتراجع.
لم يكن التحرُّك الأفريقي الجنوبي محض صفعة في وجه الاحتلال ومجرميه وداعميه وراعيه وحسب، بل صفعة أكبر في وجه الأنظمة، ومنها العربية، التي لطالما تبجّحت بقدرتها على احتكار الأزمات وتمثيلها والهتاف باسمها من أجل مكتسبات رخيصة تحت مسمَّيات الأمن القومي والشعارات الكبرى والمصلحة الوطنية. لقد أزاحت بريتوريا، وفي يومين فاصلين حتى اللحظة، صورة باهتة لا ترقى بالطبع لأعقد أزمة مرّت بها البشرية، حملتها الأنظمة التي ما فتئت تخذل المظلومين والمقتولين على مدار خمسة وسبعين عاماً على يد مذبحة لا تقلّ ضراوة ولا وحشية بالطبع عمّا حدث في المئة يوم الأُولى من عمر عدوان الإبادة على غزّة، والذي ما زال يحدث حتى هذه اللحظة، وأعطت أملاً لما يمكن أن يكون عليه الحال حين تتحرّك الدولة، إذا أرادت بالطبع، لتلعب دورها الطبيعي والمنطقي والمأمول، دون حسابات الخوف من أميركا، ودون مواربة حسابات الربح الدنيئة على ظهر المظلومين.
في الأيام الأخيرة، كان من اللائق أن يتردّد اسم نيلسون مانديلا، الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات، وكأنّ ذكرى الرجُل وقد أُعيد إحياؤها بما يليق برحلته الطويلة الممتدّة على عذابات أبناء جلدته، كان حرياً بنا هنا والآن، أن نستعيد أسماء من رفعوا إلى جانب مانديلا ذكرى النضال ضد الأبارتهايد والظلم والعنصرية: جاكوب زوما وسيريل رامافوزا وأوليفر تامبو، وغيرهم كثيرون ممّن كتبوا تاريخاً مشرّفاً يتجاوز حدود القارّة السمراء إلى آفاق العالم الأرحب.
لقد استدعى الإنسان الفلسطيني، وعلى مدار تاريخه الطويل من النضال ضدّ الاحتلال، الكثير من المفاهيم المؤسِّسة من جنوب أفريقيا، بالنظر إلى التجربة النضالية الثرية ضدّ الاستعمار والفصل العنصري والإسكات التام، استدعاء يصل إلى حدّ الإلهام والمرجعية في النضال الشعبي والقانوني ضدّ أعتى أشكال الاستعمار الحديث، الذي لم يتوقّف عن اختراع وابتكار أصناف المعاناة للمعذَّبين تحت جنازير دباباته وأنياب جرّافته.
لم تنته القصّة بعد، لم يذهب المجرم إلى السجن، ولم يُقفل الجرح أبوابه. الطائرة المجنّحة بالصواريخ والرعب والموت ما زالت تحلّق وتضرب وتهدم أينما شاءت ومثلما شاءت، لكنّنا نستطيع الآن أن نستجوب لعثمة المُجرِم، وبحّة صوته، وقطرات عرقه المتساقطة على ورقة الكذب أمامه، نستجوبه ونُدرك تماماً أنّ مشواره بات قصيراً.
* كاتب من فلسطين