يدخل العقيد المتقاعد وليام لودلو (أنتوني هوبكينز)، في فيلم "أساطير الخريف" (1994)، إلى البار ويطلب أربع كؤوس بيرة، لكنّ الساقي يقدم ثلاثاً فقط، لأن الرابع هنديّ لا يتشرّف بخدمته. يلتفتُ العقيد إلى رفيق العمر الهندي، وان ستاب (غوردون تووتووساس)، ثم يشرح للساقي: "إنه رجل متحضّر".
أمّا تريستان (براد بيت)، البرّي والابن الروحي لـ وان ستاب، فلم يحتمل الإهانة، وما كان منه إلّا أن ضرب الساقي بهراوة، وتابع يرطم رأسه بحاجز البار مصوّباً مسدّسه إلى الصدغ قائلاً للرجل المدمى إن "وان ستاب عضو محترم في قبيلة كري. سلَخ العديد من فروات رؤوس أعدائه، وهو ظمآن ويريد بيرة".
في دقيقة ونصف
وبالطبع فإن تريستان البرّي، الذي وُلد ولادة عسيرة ذات خريف، أشقر وذو عينين زرقاوين، فاحتضنه الهندي ولفّه بجلد الدب، هو مَن سيكبر ليخوض الحرب العالمية الأولى دفاعاً عن "العالم المتحضّر"، وسيسلخ رؤوس الجنود الألمان "المتحضّرين" ويحمل الفروات مشكوكةً في قميصه وهو يركب حصانه مخطوفَ العقل، كأن الحصان يسير على أرض أسطورية، لكنّ الحقيقة أنها ملفّقة.
لقطة البار تلخّص - في دقيقة ونصف - التشويه النمطي الثقافي للأميركيين الأصليين، الذي يقع تحته فيلم غاطس حتى أذنيه في عشق الروح الهندية، وتدور أحداثه بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، إذ كان دم أصحاب الأرض يواصل جريانه، ليتأكّد المستوطنون الأميركيون أن هذه الأرض الشاسعة خالية ممّن يصفونهم بـ"الهمج".
ساشين ليتلفيذر على المسرح
نستعيد هذا، مع رسالة الاعتذار التي أرسلتها أكاديمية الأوسكار قبل أيام إلى الناشطة ساشين ليتلفيذر، من شعب أباتشي، بعد 49 عاماً مضت على إهانتها خلال توزيع جوائز الأوسكار يوم 27 آذار/ مارس 1973، واصفةً ذلك بأنه "غير مبرّر وغير عادل". لقد فاز مارلون براندو بالجائزة عن دوره الشهير دون كورليوني في الجزء الأوّل من فيلم "العرّاب"، وكتب ثماني صفحات للخطبة التي سيلقيها، إلّا أنه قبل الحفل بيوم طلب من ليتلفيذر (جارة المخرج فرانسيس كوبولا) أن تنوب عنه. وبالطبع لم يكن للبيض أن يحتملوا سماع ثماني صفحات من هندية، فأمروها أن تلتزم فقط بستّين ثانية.
ويا لها من ستّين ثانية مخيفة. كلّ ما فعلته ليتلفيذر، الشابة المرتبكة، كان أنْ رفضت تسلّم التمثال الذهبي من مسيّر الحفل، وأوضحت أن براندو "للأسف الشديد" لا يمكنه قبول الجائزة بسبب "معاملة صناعة السينما للهنود الأميركيين اليوم"، فتعالت صيحات الاستهجان، وأمسك ستّة من رجال الشرطة بنجم الكاوبوي العنصري جون واين الذي هجم لينزلها عنوة من المسرح. وبينما هي تخرج بحراسة شرطيين، كان العديد من الأميركيين البيض "المتحضّرين" يواجهونها بأداء "ضربة توماهوك" Tomahawk chop الازدرائية.
لاحظوا أن جون واين، الكاوبوي المتطرّف، والعاطفيين المُغدقين نبالةً في فيلم "أساطير الخريف"، ينظرون باتّجاه واحد نحو شخص متوحّش، يمكن أن يصبح متحضّراً وإنساناً مثلنا، ونحبّه كما يقدمه الفيلم، بينما بالنسبة لواين هو شخص أنانيّ لا يستوعب الأفضال التي جلبها الأبيض المسيحي، ويتنعّم بها ككائن وثنيّ يأكل لحوم البشر، وليس من حقّه أن يقف على مسرح خلق فقط من أجل الأسياد.
المتفضّلون
إذا بحثنا عن نقطة التقاء بين "المتفضّلين" البيض، فسنجدها في "أساطير الخريف"، الفيلم المؤسَّس على رواية بالاسم نفسه للأميركي جيم هاريسون صدرت عام 1979، وفي رواية "موبي ديك" الضخمة الصادرة عام 1851، لهيرمان ملفيل (ترجمها إحسان عباس).
إسماعيل، الراوي في "موبي ديك"، يحبّ كويكويغ، أو يبدأ بمحبّته له رغم صفاته التالية: همجي، متوحش، أمّي، رأسه يشبه رأس جورج واشنطن مع تطوّر باتّجاه بدائيّ. غامر كويكويغ بقاربه ذات مرّة ليلحق بسفينة صيد حيتان. تعلّق بالسفينة وصعدها، والقبطان الذي ازدراه أحجم عن قتله معجَباً بجسارته، ووافق على أن يكون واحداً من عُصبته، وكان هذا المتوحّش "مدفوعاً برغبته الفذّة في التعرف إلى دنيا المسيحية".
هذه هي المرجعية التي ينهل منها "المتحضّرون" بعد خراب بلاد كانت عامرة بأهلها، الذين لم يبقَ منهم إلّا القليل تحت حروب إبادة لا مثيل لها على الإطلاق في تاريخ البشرية.
إنهم متسامحون، ملّوا من الاستباحة والمحو، واكتشفوا أن هذا الكائن الأقلّ شأناً، والذي خسر المعركة ولم يعد ينشد سوى البقاء، ها هو ذا يتطوّر ويصبح بإمكانه أن يشرب بيرة مع عقيد متقاعد، أو يتقاسم السرير في الفندق كما تقاسمه إسماعيل والهمجي السابق كويكويغ.
مارلون براندو
حين أعلن مارلون براندو (1924 ــ 2004) موقفه، كان شجاعاً أمام ماكينة هوليوود الطاحنة التي لا تُبقي ولا تذر. وفي المواد الأرشيفية المُبرزة في فيلم "استمع إليّ مارلون" (2015)، يقول براندو: "هذا ما علّمتنا إياه هوليوود، فالهنود يظهَرون قذرين متوحّشين. كلّ ما تعلمناه عنهم خاطئ".
ويضيف: "وقّعَت الولايات المتحدة 400 معاهدة معهم، وكلّ واحدة جرى خرقُها. نحبّ رؤية أنفسنا ــ ربما كما رآنا جون واين ــ الأكثر عدلاً ومدافعين عن الحرية، لكننا كنا الأكثر عدوانية وتدميراً". وهذه هي الخلاصة في وعي براندو: "الأميركيون لا يريدون مواجهة الحقيقة. نحن لا نواجه حقيقة أننا جميعاً على أرض مسروقة. كلّ هذه العظام ستخرج من القبور". أما جون واين ورصفاؤه الذين ازدروا ساشين ليتلفيذر بأداء "ضربة توماهوك"، فهم الطبقة التي كتبت التاريخ الأبيض، وكيف ستكتبته إن لم تمسخ أصحاب الأرض وتُصوّرهم بعين واحدة ورأس كلب، كما كتب مبكّراً كريستوفر كولمبوس في رسالته إلى ملك إسبانيا؟
الإبادات الثقافية
هذا ما يورده كتاب "أميركا والإبادات الثقافية" للباحث المميز منير العكْش، مبيّناً أن جرائم الإبادة في ما يُسمّى اليوم الولايات المتحدة ذهبت أبعد من الجرائم الإسبانية في أميركا اللاتينية، إذ كانت مؤدلجة. قَتْل السكّان الأصليين أمرٌ مقدس من الرب لأنهم كنعانيون فلسطينيون، وهذا مضحك من فرط فجوره.
آلاف الوثائق والرسوم والشهادات والكتب درسها العكْش في المكتبات الأميركية، هي التي تقرّ، بل وتُفاخر بسلخ فروات رؤوس الملايين من الهنود وطبخ الجثث. لماذا؟ لأن "انتشار الأنغلوساكسون في الأرض توسيعٌ لمملكة الله، وإذا اقتضى الأمر فليكن على جثث الأعراق الضعيفة". هذا ما جادت به قريحة المؤرّخ والروائي البريطاني تشارلز كنغسلي.
ولا يكفي أن تقع المجازر. لا بد من وراثة "التوماهوك" ثم عزله عن أيّ مسار تاريخي عادل.
توماهوك
سنأخذ هذه الآلة المسمّاة "توماهوك" نموذجاً للرمزية التقبيحية التي تنظر فيها دولة المستوطنين في أميركا ــ القوّة العسكرية العظمى حتى اللحظة الراهنة ــ إلى بضعة ملايين من السكّان الأصليين العزّل. كانت "توماهوك" بلطة بساق خشب، لكنّ الرأس من الحجر الصوّان، إذ لم يكن الهنود الحمر يعرفون الفولاذ قبل مجيء المستعمرين الأوروبيين.
أبدعت مصانع بريطانيا في صناعة البلطة، وتنافس الحدّادون في أرياف أميركا على هذا المنتج المربح منذ بدايات القرن السابع عشر، ضمن تجارة الفراء مع الهنود، وسمّوه "توماهوك"، تحريفاً للاسم الأصلي تاماهاك أو تاماهاكان.
سبب تميّز هذه السلعة أنها لم تكن بلطة فقط، بل أصبحت الساق الخشب مجوّفة وطويلة بما يقارب نصف متر، والرأس يتكون من شفرة الفولاذ وفوقها حنجور يوضع فيه التبغ. بمعنى أن هذه القطعة ستؤدي وظيفتين: البلطة والغليون الطويل.
والمؤرّخون لا يستطيعون الجزم بأن قطعة "توماهوك" ــ الاسم الذي سيستخدمه السكّان الأصليون أيضاً ــ يمكن إحالتها إلى المستعمر أو الهندي، فقد طرأت تحوّلات جذرية عليها، ولم تعد بلطة للدفاع عن النفس أو أعمال النجارة، بل باتت مرتبطة بالهيبة والهدايا الدبلوماسية.
وبالهيبة، تشبه الجنبية التي يعلّقها اليمني والعُماني على خصره، أو الشبرية عند قبائل عربية في بلاد الشام. ولنا أن نرى "التوماهوك" وهي مرصّعة بالفضّة والنقوش والشُرّابات الملوّنة، والريش، ويبيعها الأميركي المستوطن، أو يهديها لزعيم قبيلة، كي يتزيّن بها ويدخّن تبغه. كيف لهذه القطعة أن تصبح علامة على دموية الهندي؟
الطبرزين
وبكل التقدير للترجمة الفخمة التي منحنا إياها العلّامة إحسان عباس، فقد أخطأ في تسمية هذه القطعة بـ"الطبرزين"، وهي ذات أصل فارسي تعني الفأس أو البلطة، وتُستخدم في مناطق عربية مختصرة إلى "الطبَر".
ولأنها مصنوعة للتبغ أيضاً، فسماها "الكدوس"، وهو غليون ذو ساق طويلة، مشهور في السودان، حيث أمضى عباس معلّماً في "جامعة الخرطوم" و"جامعة القاهرة ــ فرع الخرطوم" بين عامي 1950 و1960، وأحبّ أن يستعملها في ترجمته.
أي أنّه ورّطنا في كلمتي "الطبرزين" و"الكدوس"، بينما هما تجمعهما كلمة واحدة: "توماهوك"، الذي ببساطة وظيفتهُ البلطة والتدخين. وكان يمكن استعمالها مع شرح في الهامش، ولديه شروح كثيرة كريمة في الرواية تدلّ على بحر معرفته.
"التوماهوك" أصبحت تراثاً في المتاحف الأميركية ومزادات البيع، ناهيك عن استمرار صناعتها كبلطة حربية للجندي الأميركي، وزيادة في الدلال صارت صاروخاً تدكّ به الشعوب "غير المتحضّرة"، سمّوه "بي جي إم-109 توماهوك".
هوس ضربة توماهوك
إلّا أنها لم تحِد قيد شعرة عن هوس الأميركي الأبيض في شيطنة السكّان الأصليين، فهي دلالة على وحشية الهندي، وتُختصر بحركة الضرب والتقطيع التي نشاهدها بين عشرات الآلاف من مشجّعي رياضات البيسبول وكرة القدم الأميركية في الاستادات، ويسمّونها Tomahawk chop. يرفعون أذرعهم للأعلى حاملين بلطات جلدية ثم يهوون بها للأسفل ويردّدون صيحات الهنود الحمر. وحين مرّت ساشين ليتلفيذر وواجهها جمهور الأوسكار بهذه الحركة، ابتلعت الإهانة التي عرفت الكثير منها، بيد أنها تعرضت لإطلاق رصاص تحذيري من زعران البيض.
فإذا لم يترك الهندي تاريخه نهباً للسرقة والتزوير على يد هوليوود تحديداً، فعليه أن يعرف أن الرصاص خيار سهل، ولا يحقّ لـ"الهمجي" أن يقلد ساخراً حركة تصويب بندقية الأبيض، أو مجرد زرّ يضغط عليه بإصبع أنيق فيخرج صاروخ حضاري يسوّي المباني وسكّانها بالأرض، وأنت تواصل أكل البوشار.
ظلّت ليتلفيذر على قيد الحياة، وهي اليوم في عمر الخامسة والسبعين ومصابة بسرطان الثدي، لتشاهد العام الماضي دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، وزوجته ميلانيا وهما يشجّعان فريق "بريفز" في بطولة العالم للبيسبول في أتلانتا، بأداء "ضربة توماهوك".
إنهما، ترامب وحرَمُه، يتوعّدان الفريق الخصم بالبلطات الجلدية فاقعة اللون، مع الجماهير الحاشدة، وصيحات الحرب التي رسّختها هوليوود في مئات الأفلام، ويظهر فيها الهنود كائنات غير عاقلة قاصرة عن فهم أن الأبيض "لا يغتصب، ولا يذبح، ولا يعتدي، ولا يمارس العنف بل يُعاقب"، كما يورد كتاب "الإبادات الثقافية".
العِقاب
يعاقِب الأبيض أيّ كنعاني في الأرض من أميركا حتى أستراليا، لأنه يعيق الحضارة التي يحقّ لها تصنيف البشر في السلّم البشري، من الهمج إلى القمة التي رسمها داروين في عبارته: "البقاء للأصلح". ظلّت ساشين ليتلفيذر على قيد الحياة، تناضل مع شعبها نضال الكفّ للمخرز، وهي ترى كنعانياً من أيّ مكان "متخلّف" في العالم يحمل عروسته، قُبيل ولادتها، لتلد كائناً سيحصل على الجنسية الأميركية، ويكبر ويؤدّي "ضربة التوماهوك" دون أن يفهم، أو يفهم ويذعن.
هي تعرف الفارق الفادح في ميزان القوى، ولكنّها الحقيقة، ولا بد من سامع لها حتى لو اخترقت طائرات الحضارة حاجز الصوت.