"النغل" لغسّان الصامتي: دفء الريف التونسي وقسوته

19 يونيو 2024
تدور الرواية في عالمٍ من الفقر المدقع، وهذا ما صنع تميّزها
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- جائزة مي غصوب للرواية لعام 2024 تكرم الكاتب التونسي غسّان الصامتي عن روايته "النغل" التي تعكس أزمات تونس بأسلوب سردي مبتكر، مقسمة إلى ثلاثة فصول تبرز تجربة غنية بالتحولات الشخصية.
- تتناول الرواية مراحل حياة الشخصية الرئيسية من الطفولة والمراهقة في بيئة معزولة، مرورًا بكشف تفاصيل مؤلمة حول نشأته وعلاقته بوالدته وجدته، مما يضيف عمقًا للعلاقات الشخصية.
- الفصل الثالث يسلط الضوء على الفقر، البطالة، وانتشار الجريمة في تونس من خلال مقتل الجدة، مقدمةً صورة قاسية للمجتمع التونسي مع الاحتفاء باللحظات الإنسانية بين الجدة وحفيدها.

في دورتها الثالثة (2024)، تضيف جائزة مي غصوب للرواية، التي تنظّمها دار الساقي، صوتاً جديداً إلى الرواية العربية؛ هو الكاتب التونسي غسّان الصامتي. صوتٌ يأتي بأسلوب قوله معه، فروايتُه الفائزة (أصدرتها الدار خلال العام الجاري)، حكايةٌ تونسية أمينة لأزمات تونس، بقدر ما تقترح أسلوب بنائها السردي.

وفي الأسلوب، تنقسم رواية "النغل" إلى ثلاثة فصول مُنفردة بذاتها؛ إذ يمكن للفصل الأوّل أن يكون حكايةً منفصلة عن طفل يعيش هناءً مسروقاً مع جدّته، إذ يختبر سنوات المراهقة الأُولى، ويحاول بمفرده اكتشاف جسده - إذ لا نعرف شيئاً بعدُ عن الأب أو عن بقية ذكور العائلة - والمُراهق متروك ليعرف مَا هو عليه. وما يحدث معه، خلال الفصل الأوّل، ليس إلّا محاولاته لتقتير مساحة الجهل بجسده. هو يكتشف جسده، كأنّ ما يحدث معه حدث معه فقط، ببساطة لأنّه يعيش بمفرده مع جدّته، ببساطة لأنّ الآخرين يتنكّرون له، لأنّه، كما نعرف في نهاية الفصل الأوّل، نغلٌ، "ابن حرام"، طفل غير شرعي.

عند هذا التعريف للشخصية يبدأ الفصل الثاني، الذي يخفّف فيه الصامتي الغموض بشأن نشأة النغل، وهو غموض يتكشّف عن نشـأة لا تقلّ تعاسة، إذ نعرف أنّ والدته عانت كي تُنجبه، وقد أنجبته في عمر متأخّر، ورحلَت بولادته، فيما والده ترك الأُمّ، ولاحقت الشكوك حقيقة نسبه. حتى أنّ جدّته لوالده رفضته، وتلك الجدّة التي نشأ معها، واحتضنته حتى صار شابّاً؛ ربما تكون القابلة، النصّ يُناديها الجدّة سالمة، من غير أن يُخبرنا إن كانت جدّته لوالدته. مع ذلك، فالعلاقة التي تجمع الحفيد بالجدّة إحدى أشكال المآثر التي يحفل بها الأدب، وذلك الدفء الذي تنطوي عليه العلاقة بينهما، يحيق به برد الخارج، والطمأنينةُ التي يحظى بها النغل، صنعتها أساساً الكراهية التي كان يقابَل بها بعيداً عن الجدّة. وقد ابتعد عنها النغل في الفراغ الذي ملأه علينا الكاتب في الفصل الثاني بحكاية عن نشأته.

تدور الرواية في عالم من الفقر المدقع، وهذا ما صنع تميُّزها

في الفصل الثالث، تعود الجدّة التي تعرّضت للحجْر الصحّي مدّة عام كامل، بسبب انتشار مرض السلّ. عام أمضاه النغل مع فتيان القرية في حظائر العمدة. وعندما ترجع الجدّة، تأخذه مجدّداً إلى دفئها، إلى حنانها الغامر الذي يشعّ في الحكاية كلّها، ويكسر شيئاً من قسوة العالم على النغل، القسوة التي اختبرها في المدرسة وفي مجتمع القرية وفي حظائر العمدة. إلّا أنّ هذا الدفء الذي تُشيعه العلاقة بينهما فخٌ صنعه الصامتي كي يُبدّده في الفصل الأخير مع مقتل الجدّة في المدينة، في تونس، حيث هربت مع حفيدها، وبما يكشفه النصّ لنا، نُدرك أنَّها هربت من الفقر. وقُتلت أيضاً بسبب الفقر والبطالة في العاصمة وانتشار الجريمة.

هذه هي حكاية "النغل" الذي انتهى شريداً في شوارع تونس. وقد عرضها الصامتي بلُغة مقتصرة ومباشرة ومتماسكة، وبمَشاهد متقنة تصف الريف وتعرض العلاقات الإنسانية في ذلك الفضاء الفقير، مَشاهد عن الجهل والمرض وقسوة المجتمع. إنَّه مجتمعٌ قاسٍ يتآكل بقواه الداخليّة، يطحن مصائر أفراده بقواه الذاتية. وكأنّما العنف بذرة تنبت من داخل المجتمع، الذي يربّيها بالمزيد من الكراهية والقيم الذكورية. 

لا دلالات كبرى في الرواية، إنَّها تدور في عالمٍ من الفقر المدقع، وهذا ما صنع تميّزها. رواية تجري أحداثها في حيّز مغلق، وغناها غنى الشرور الصغيرة التي تخرّب على البشر عيشهم. واللحظات الإنسانية التي فيها هي اللحظات العادية التي قد تحضر في طفولة كلّ قارئ، لجدّة تضمّ حفيدها إلى ذراعيها وهي تحاول أن تحميه ممّا يجهل بصورة مؤقّتة؛ لأنَّه ما إن يكبر حتى يعرف أين يعيش، وبموت الجدّة يتأكّد له انتهاء عالمه الأثيري الذي كان مسوّراً بالقسوة والعنف.

* روائي من سورية

المساهمون