استمع إلى الملخص
- الأهالي في المواصي يعانون من فقدان الأحباء والمنازل، وسط انعدام الخدمات وتفشي الأمراض، مع فقدان الأمل في وقف إطلاق النار، مما يعمق جراح المنطقة التي كانت مليئة بالحياة.
- رغم الدمار، يظل أهالي المواصي متمسكين بالأمل والصمود، مع إيمان بأن العدالة ستسود وأن الروح الفلسطينية ستظل مقاومة للاحتلال والتهميش، كما يعبر عن ذلك شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا.
شاعت لفظة "المواصي" في الأخبار، كونها غدت اليوم ملجأ نازحي أهل القطاع وملاذهم. لم تولَد هكذا صحراء من الرمال. أبناء جيلي، ومن سبقهم، يعرفون أنّها كانت رئة القطاع، وجنّته الأُولى والأخيرة. لم تُصبح صحراء إلّا بين عامَي 82 و83، حين مسح تلالَها وجرّف جميع أشجارها العدوّ. كانت ملاذ الطلبة للاختلاء والمذاكرة، هرباً من ضيق المساحة في البيوت، منذ خمسينيات حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي.
كانت جنّةً حرفياً، وأصبحت صحراء بعد إبادة بيئيّة كاملة الأركان.
كانت ملاذنا كذلك في حرب حزيران، وفي العدوان الثلاثي عام 1956، حين اختبأ الناس تحت أشجارها المورقة الكثيفة، فراراً من القتل. أكثرُ من 18 كيلومتراً مربَّعاً ممتدّة من النصيرات إلى سلك الحدود مع مصر، شاملةً مُدن دير البلح وخانيونس ورفح.
أبناء جيلي ومن سبقهم يعرفون أنّها كانت رئة القطاع وجنّته
فيها اختبأ فدائيّون، ودفنوا أسلحتهم الفقيرة، وتحت أشجارها وتغريد عصافيرها، اختلى شعراء وفنّانو تشكيل، وعشّاق تأمّل، في مفتتح بكارة العمر وبداية تفتُّح المواهب.
فيها، تركت شخصياً لفافة كبيرة من مخطوطات البدايات، وبعض منشورات ممنوعة، بعد أن دهمت مخابرات العسكر، دارَنا غير مرّة. كنت أدفن ما يُحبس عليه، تحت شجرة كينا أو أكاسيا مختارة، بالقرب من كوخ صنعته، على عمق مترين في التراب الذهبي، ملفوفاً بغير طبقة من النيلون المحكم. ثمّ ذهبت للقاهرة طالباً في الجامعة، وطلباً للأدب. ولما عدت صيف 1983، كان أوّل ما فعلته أن ذهبت لاسترجاع الأمانة، ولم يكن أحدٌ أخبرني بما جرى، ففوجئت بأسلاك المستوطنة، وبأبراج الحراسة يعتليها القتلة، مطلقِين الرصاص على كلّ من يقترب.
هكذا عدتُ مصدوماً.
وهكذا ضاعت المخطوطة، وضاعت الجنّة، وضاعت ذكريات عشر سنوات (لا أقلّ)، جميعاً في وقت واحد.
اندغمَت المواصي في وعي الأهالي وفي لاوعيهم بأهوال يوم القيامة
أمّا اليوم، فقد فقدنا ألوفاً من الأهالي فوق هذه الرمال السافية، التي لا تصلح لأيّة حياة. وصار لنا فيها عديد قبور، ارتجلت على عجل، حسب الظرف والحاجة.
فقدَ الناس أحبابهم بإعدامات على الهواء مباشرة، وهم تحت خيام النيلون، لا يملكون من أمرهم شيئاً. يُعدَمون عن طريق بوارج البحر، وطائرات السماء، ودبّابات الأرض، واجتياح الجنود، حيث لا يسلم من سعار القسوة أحد.
أصبح ما كان جنّة، هو قلب الجحيم.
واندغمت المواصي في وعي الأهالي، وفي لاوعيهم، بأهوال يوم القيامة.
جوعاً وقتلاً يُعدمون، وضيقاً وانعدام خدمات، يعيشون. انتشرت بينهم أمراض الصيف والشتاء، وها هُم فقدوا أيّ أمل بوقف إطلاق النار، بعدما تيقّنوا من أنّ رأس الأفعى وربيبتها وأعداء الجوار المستعربين، لا يريدونهم أحياء. فالهدف الأوّل من هذه المهلكة هو قتل وإعطاب أكبر عدد ممكن من الأجساد والأرواح، بعد إعدام المنازل والمنشآت والبنى التحتية كافّةً تقريباً، نوعاً من تفريغ الأرض، وضغطاً على المقاومة كي تستسلم.
لن يستسلم أحد، ليس لأنّنا من طينةِ خارقين، بل لأنّ المعادلة صفرية، والأعداء مَن جعلوها كذلك. لهذا لا يبقى أمامهم إلّا ارتكاب المزيد من التجويع والمزيد من الترويع: المزيد من التركيع والمزيد من الأحقاد والأوهام، ضدّنا أجمعين، من الطفل حتى الشيخ، ومن الرضيعة حتى الجدّة، إنّما: هيهات.
هيهات، والله.
غزّة جدارنا الأخير، وسنُريهم ما لا يحبّون، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وحتى ينزاح عن كواهل شعوبنا، يبابُ التطبيع، وكي يعتدل الميزان، بعد أن رجحت كفة الشرّ الغربيّ على كفّة عزلاء، قرناً من الزمان وأكثر.
* شاعر فلسطيني مقيمٌ في بلجيكا