المتّهَم

16 ابريل 2022
هاني زعرب/ فلسطين (جزء من لوحة)
+ الخط -

اشتعل خوفاً على خالته الملطوشة عندما علم من المتحدّثين أنها مريضة، مكسورة، لا تقوى على الحركة، تحتضر.

كان قد غضب عليها بسبب اتّهامها له، أمام جيرانها، بسرقة مصاغها، هو وغيره... حاول أن يدافع عن نفسه، أن يناقشها ويطلب إثباتها، (وقد طلب بعضُ الحاضرين ذلك فعلاً، فلم تُقدّم دليلاً)، أنْ يطلب منها البحث عن مصاغها مجدّداً، فلربما وضعته في مكان ما داخل البيت ونسيته، لكن الاتهام كان قد انطلق وتلجلج في آذان السامعين ولاكته ألسنتهم، وانقسموا بسرعة مجنونة بين "مصدومين" من الاتهام و"عقلانيّين" في التعاطي معه و"محايدين" لا معها ولا معه و"شكّاكين" فيه، وكلّها تقسيمة مؤذية للنفس.

شعر بالإهانة والغضب، حتى عندما سانده جارٌ لها هامساً أنّها فبركت الاتهام لتفتعل مشكلة، إن لم تكن معه هو فمع غيره... نظر ساعتها إلى وجهها، وقال بتأنٍّ:

- طالما اتّهمتِني يا خالة، فلن أدافع عن نفسي، لكن هذه هي نهاية قرابتنا...

ما فائدة دفع تهمة يوجّهها قريب بعد أن تُطرح؟

- مع القلعة يا حرامي! أعِد المصاغ أوّلاً!

أخفض رأسه بحزن ثابت ومضى يتبعه جيرانها المشكّكون يتهامسون عليها، فطلب منهم السكوت، لأنها - في النهاية - قريبته. ومضى الأسبوع تلو الأسبوع.

في الأسبوع الثاني، أخبروه أنّ فالجاً قد أصابها وأنّ كلامها تثاقل كثيراً. شعر بارتياح لأنّ لسانها الذي اتّهمه قد عوقب! بعد أسبوع، قالوا إنّها وقعت وكسرت ذراعها، فتأسّى قليلاً عليها. في الأسبوع الخامس، قالوا إنها مريضة بمرض غامض، على صلة بحزنها على فقدان مصاغها. شعر بالقلق. في الأسبوع الأخير، قالوا إنّها مريضة مجبّرة الذراع لا تقوى على الحركة تحتضر، وأنّ مَن تستعين به من الأولاد يعذّبها.

بعد تردُّد، حسم أمره وذهب يأكله الارتياع نحو بيت خالته

عندئذٍ، تراجع غضبه وأخذ يشعر بالخوف عليها. ومع أنّه كان ميّالاً في سريرته إلى الرأي الذي يقول إنّها لم تفقد شيئاً، بل تحاول افتعال مشكلة لتتخلّص من بعض واجباتها الاجتماعية نحو جيرانها، فقد سكن غضبه، وثارت - بدلاً منه - اللوعة عليها.

واقتحمت مخيّلَتَه التصوّرات والاحتمالات: أن تكون غير قادرة على جلب شيء، هي طريحة الفراش، أو أكله، أو دفعه! ألّا تكون قادرة على حكّ أرنبة انفها! أن تموت وهو مقصّر في حقّ صلة الرحم!

بعد تردُّد وخطوات تكرّرَت أمتارها جيئةً وذهاباً، حسم أمره وذهب يأكله الارتياع نحو بيت خالته العانس، التي يأبى أخواله أنفسهم الاحتكاك بها، كما صار يفعل الجميع أيضاً. كانت الحديقة مهملة كثيراً، وكان الدرب مليئاً بالأوساخ، أمّا الملابس المعلّقة على الحبل بالملاقط الخشبية، فقد تأرجحت ذيولها - أو أذرعتها - في الهواء علامةً أنّها جفّت منذ وقت ولم يجمعها أحد.

دقَّ الباب الخشبي المغلّفَ بطبقة من الصفيح، وسمعه ينفتح بصريرٍ بطيء أشبه بالتعذيب. ومع كلّ خوفه على خالته التي لا أحد لها غيره، فوجئ بها تَظهر سليمة معافاة لا أثر للجبيرة أو المرض أو حتى الحزن، وتهزّ يدها في وجهه، صائحةً بصوت لا ضمير له:

- هل أحضرت المصاغ يا حرامي؟

مجدّداَ لم يجد ما يقوله. استدار وعاد أدراجه. في اليوم التالي طلبه جيرانها لأنّها وُجدت ميتة في بيتها.


* كاتب من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون