الجيل "زد" أو الجيل الصامت: في ضرورة الكلام

15 أكتوبر 2024
جزء من عمل للفنان الفلسطيني كمال بلاطه، أكريليك على قماش، 1997
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُعتبر الجيل "زد" أول جيل رقمي بالكامل، وقد شهد تحولاً في وعيه بعد السابع من أكتوبر، حيث أصبح يشعر بإلزامية المشاركة في القضايا العامة، خاصة في العالم العربي.

- اخترع الجيل "زد" لغة رمزية جديدة حول فلسطين، تتجاوز الخوارزميات وتعيد تشكيل الفضاء الرقمي، مما أدى إلى خلق حقل دلالي جديد يعيد تشكيل الفضاء الرقمي.

- تمكن الجيل "زد" من تطويع الفضاء الرقمي للاشتباك مع الشأن العام، مما أثار ردود فعل من أصحاب الخوارزميات، ونجح في خلق لغة جمعية رمزية لا تفهمها الخوارزميات.

ثمّةَ تصوّرات موضوعة عن الجيل "زد" (مواليد فترة منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الأوّل من الألفية الثالثة) تضعه دائماً في قوالب عملية، وتُصنّفه كجيل منغمس في الذات، يعنيه الشخصي، ناءٍ بنفسه عمّا هو عام، إلى حدّ تسميته بـ"الجيل الصامت"، وهو أوّل جيل رقمي بالكامل، أي أنّ حياته متّصلة بالعالم الرقمي بشكل مطلق.

مع السابع من أكتوبر، وما تلاه، صار ثمّة وجهة نظر جديدة عن العالم لهذا الجيل، تحديداً في العالم العربي، كوّنت عنده نوعاً من الإلزام بالمشاركة.

بوصفه جيلاً مستغرقاً في العالم الرقمي، كان الفضاء الخوارزمي هذا يُحدِث خلخلةً في وعي جيل كامل، وفرض عليه فعلَ تلقٍّ إلزامي لا يُمكن رفضه. والتوصيف الذي يبدو دقيقاً للعلاقة القائمة بين هذا الجيل والتكنولوجيا عموماً أنّها علاقة سلطوية، بين سيّد وعبد، إذ أصبحت التكنولوجيا وجوداً قائماً يُملي ويأمر ويفرض، وفي أحيان أُخرى يصحّح أخطاء يرتكبها الإنسان نفسه. وبلغت العلاقة طوراً غرائبياً فانتقلت التكنولوجيا من كونها موضوعاً حتى أصبحت ذاتاً - تقريباً - كلّية المعرفة، فيما أصبح مستخدمُها (من الجيل) موضوعاً قابلاً للمعرفة.

هذه العلاقة التي استمرّت ردحاً طويلاً انقلبت تماماً في يوم واحد: من فضاء يُشكِّل إلى فضاء يُشكَّل، ومن فضاء يفرض رموزه وعوالمه الثقافية إلى فضاء تُفرَض عليه الرموز، من فضاء يصنع سيميائيته إلى فضاء تُصنَّع سيميائيته، وأخيراً من فضاء يَفرض لغته إلى فضاء يُحدِّد له مستخدموه لغةً جديدة.

اخترع الجيل "زد" لغة رمزية حول فلسطين لا تبيدها الخوارزميات

في ظلّ عدم القدرة على الاشتباك مع الفضاء العام، طوّع الجيل "زد" العالم الرقمي ليصبح فضاءً للاشتباك، وسيلةُ الاشتباك وحيدة: اللغة. أصبحت اللغة فيه، تقريباً، بديلاً عن الفعل، أصبحت ضرورة وحرية في آنٍ معاً، صحيحٌ أنها لا تلغي المجزرة ولا تنهي الإبادة ولا توقف المذبحة، لكنّها تشير إليها، توصّفها، تعلن عنها. وبان أنّ اللغة استعادت جدواها عبر هذا الفضاء. مع وبعد السابع من أكتوبر صار ثمّة مستويان للكلام: الذاتي البحت، وهو الذي يقوله الضحايا (الكتّاب من غزّة)، أمّا الثاني فهو الذاتي الانفعالي الذي يميل إلى الموضوعية (الجيل العربي عموماً). وسرعان ما اختلط المستويان فأصبحا مستوىً واحداً.

كان الفضاء الرقمي يفرض رموزه واستعمالاته الخاصّة بمصطلحاته الخاصّة: "ميمز"، و"ريلز"، و"ستيكرز"... له رموزه الصُوَرية التي تنتشر بين الناس جميعاً بمجرّد دخولها إليه. لكنه تغيّر تماماً بعد السابع من أكتوبر، إذ جلب الحدث معه مفرداتٍ ورموزاً جديدة إلى معجم المقاومة، ومن ثمّ معجم العالَم، إشارات ومفردات لغوية، منطوقة، ورموزاً صوَريّة، جلب معها حقلاً دلالياً جديداً أعاد تشكيل الفضاء الرقمي، والفضاءات عموماً. وتمّ تطويع هذا الحقل الدلالي إشاراتياً لتصبح لمحةٌ أو جزء منه كافية أو كافياً لوضع الإصبع على الكلّ. وقد فهم الجيل "زد" لغة الفضاء هذا، فطوّعها وجعل منها لغة مشتركة توصله بمجايليه من العالَم البعيد، فخُلِقَت لغة دلالية مشتركية أشبه بجسر وصل بين الجيل في العالم كلّه.

طُوِّع الفضاء الرقمي سريعاً لينتقل من كونه فضاءً خاصّاً، ذاتياً، إلى فضاءٍ للاشتباك مع الشأن العام، وإلى فضاءٍ فلسطينيّ على مدى سنة كاملة. أليس من أجل هذا جُنّ جنون أصحابه فطوّروا خوارزميته بحيث تمنع وتتلف وتبيد أيّة كلمة مستخدمة متّصلة بالحقل الدلالي الفلسطيني الجديد؟ في حالاتٍ مثل هذه، كان الجيل يفضّ الاشتباك ويعود إلى حياته، لكنّه هذه المرة غيّر نقلاته، فاخترع حقلاً صُوَرياً ورمزياً جعل منه لغةً جمعية يمكن فهمها في العالم، لا تفهمها الخوارزميات، بل يفهمها مستخدموها، وسرعان ما انقلبت الحالة من أنّ الخوارزميات هي التي تُحدِث خلخلةً في وعي المستخدِم إلى أن أصبحت الخلخلة فيها نفسها.

إذا ما اعتبرنا أنّ العالم الرقمي هو العالم - وجوداً - اليوم، فكلّ ما حدث بعد السابع من أكتوبر هو إعادة خلقٍ له، إعادة تشكيل، واشتباك معه، وجعله مطواعاً كي يصبح فلسطينياً.


* كاتب فلسطيني
 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون