شهدت الإنسانية انهيارها الأخلاقي والروحي الأخير عندما اكتفت بالرصد والمراقبة، بينما قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب عمليات إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً بحق الشعب الفلسطيني، متذرّعة بالهجوم الذي نفّذته حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت.
في البلقان، كنّا لنسمي ما فعلته حماس انتفاضة شعبية مسلّحة وتحرّرية ضد احتلال فلسطين المستمرّ منذ 75 عاماً، والإرهاب الذي يُمارس على الشعب الفلسطيني، الذي قاومَ أغلبَ الأحيان من خلال احتجاجات غير مسلحة، تحثُّها إرادة لا يمكن تحطيمها لنيل الحرية.
خلال ما يزيد قليلاً عن شهرين، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي بقصفها المستمرّ وغزوها البري أكثر من 20 ألف شخص، وجرحت أكثر من 50 ألفاً آخرين، وشرّدت سكان غزّة الذين يزيد عددهم عن مليوني مدني -أكثر من نصفهم من الأطفال- وأخضعتهم لظروف عيش مستحيلة: إمّا النجاة أو العذاب؛ محوّلة غزّة إلى شيء لا يضاهيه إلّا الهوة في أسطورة تارتاروس اليونانية. وهي مكان أدنى من الجحيم نفسه، خُصّص للكائنات غير البشرية والوحوش التي تعاقبها الآلهة، مكان لا نهاية للعذاب فيه.
لقد قدّم لنا التاريخ والفلسفة وعلم النفس العديد من الأمثلة والتحذيرات حول الخطر الكامن فينا جميعاً، وكيفية الحماية من اندفاعه التلقائي للتخريب وتدمير الذات. تظهر هذه الفكرة، على سبيل المثال، في عملين بارزين للفيلسوف البريطاني توماس هوبز، هما "عن المواطنين" (1642) و"الليفياثان" (1651).
يصف هوبز الطبيعة البشرية بأنّها في حالة حرب دائمة، أو بعبارة أخرى، أنّها ذات طبيعة صدامية، ويستخدم العبارة اللاتينية Bellum omnium contra omnes، أي "حرب الكلّ ضدّ الكلّ" لوصف الوجود البشري في الطبيعة. يمكن مقارنة ذلك بعبارة لاتينية ثانية هي Homo homini lupus، أي "الرجل ذئب للإنسان".
في البلقان نسمي ما فعلته حماس انتفاضة شعبية مسلّحة
يوضّح هوبز وجود ثلاثة دوافع أساسية لهذه الحالة: المنافسة، الشك أو الخوف، الشهرة. الأول يدفع الإنسان إلى مهاجمة الآخرين من أجل الربح؛ والثاني من أجل السلامة الشخصية؛ والثالث من أجل نيل السمعة. لكنَّ هوبز يحذّر من هذه العنجهية البشرية، التي تدفع البعض إلى السيطرة على الآخرين وإخضاعهم، وجعل حياتهم "منعزلة، فقيرة، دنيئة، حشية، وقصيرة".
إن "إسرائيل"، رأس رمح القوى الإمبريالية الصهيونية، قد جعلت من نفسها -خصوصاً بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول- مرادفاً لمفهوم هوبز عن العنجهية البشرية، كما جعلت من نفسها أيضاً كياناً دولياً منبوذاً؛ الأمر الذي يثبته قطع المزيد والمزيد من الدول علاقاتها الدبلوماسية معها، بعد أن فشلت آلة الدعاية الإسرائيلية في إخفاء فظائعها، كما في السابق، وخسرت كلّ معركة أخلاقية وقانونية لاحقة.
تغفل "إسرائيل" الحل الذي يشير إليه هوبز لحالة الحرب، ألا وهو قوة العقل (racio باللاتينية)، الذي يكشف عن "قوانين الطبيعة"، ويمكّن الشعب -حسب رأيه- من إقامة دولة، والنجاة من فظاعات الحالة الصدامية في الطبيعة.
ينبغي أن نشير إلى حقيقة أنَّ "إسرائيل" لطالما زعمت بأن لدى اليهود حقاً في إقامة دولة في فلسطين؛ وأنَّ هذه الدولة "يهودية" ولها "الحق في الوجود". يشمل ذلك "حقها" الفرعي بأن تكون الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية، و"حقها" في وراثة كل الأراضي التوراتية التي وعد بها الإله اليهودي، إضافة إلى "حقها" في تمرير قوانين متحيّزة، عرقياً ودينياً من أجل الحفاظ على الهوية اليهودية للدولة؛ الأمر الذي عبّرت عنه في صيغة حديثة العهد: "دولة يهودية وديمقراطية".
إذن، لا ينطبق على سلوك الإسرائيلييّن، الذين يمارسون الإرهاب على سكان غزّة، ويشنون الغارات وعمليات الاستيطان القسري في الضفة الغربية والقدس، ما قاله فيلسوف بريطاني آخر -جون لوك- رداً على هوبز، بأنَّ حالة الطبيعة تتميّز بغياب الحكومة، وليس بغياب الالتزام المتبادل، وأنَّ قانونَي الطبيعة والعقل يعلّماننا بأن "جميع أفراد الجماعة البشرية (المحتكمين إليهما) متساوون ومستقلّون، وعلى الفرد ألّا يؤذي الآخر في حياته أو حريته أو ملكيته".
اعتقد لوك بأنَّ الأفراد يمتلكون هذه الحقوق بشكل طبيعي (الحق بالحياة والحرية والملكية)، وأنّها تسبق النظام الاجتماعي، بل إنَّ الحالة الطبيعية يمكن أن تكون مسالمة إلى حدٍّ ما، وأنَّ الأفراد يوافقون على تشكيل جماعات أو مجتمعات (وترك الحالة الطبيعية) فقط من أجل إنشاء سلطة محايدة تستطيع التحكيم في النزاعات ومعالجة المظالم.
وبينما يستشهد الفلسطينيون بالحقوق المعترف بها دولياً، تستشهد "إسرائيل" بحقوق غير معترف بها إلّا على المستوى الوطني، ومن قبلها فحسب. وهذه حقوق هي بحدِّ ذاتها محلُّ تفاوض الفلسطينيّين والمجتمع الدولي، أي الحق في الاستعمار والاحتلال والتمييز العرقي والديني.
تعتمد الحرب القانونية التي تشنّها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني على سردية متخيّلة مقامها "حق إسرائيل" في الوجود. يحيلنا ادعاء الإسرائيليين بكونهم شعباً مختاراً أو عرقاً متفوّقاً -وكل من سواهم تابعين- إلى التفسير العلم-نفسي الذي قدّمه كارل غوستاف يونغ (الأمين غير اليهودي على أعمال معلّمه اليهودي سيغموند فرويد، والذي رغم صداقاته الوثيقة مع اليهود لم يسلَم من تهمة معاداة السامية من قبل "إسرائيل")، بوصفه الأمر على أنه "عقدة يهوذا"، أو بوصف زميله عالم الأعصاب والمحلّل النفسي الويلزي إرنست جونز للأمر بأنّه "عقدة الإله".
بعبارة أُخرى إنّه اعتقاد لا يتزعزع وتضخُّم بالإحساس بالقدرة أو الامتياز أو العصمة الذاتية. يتصف المصاب بعقدة الإله بالتصلّب في آرائه، والاقتناع التام بصحّتها؛ وتجاهل أحكام وأعراف المجتمع، وطلب الاهتمام أو الامتيازات الخاصة. قد ترتبط عقدة الإله بالنرجسية أو الهوس أو عقدة التفوّق أو عُصاب التضخم الذاتي الأناني.
لقد حذرنا يونغ بشكل قاطعٍ عندما كتب: "الخطر الحقيقي الوحيد هو الإنسان نفسه"، وأضاف: "نحن أصل جميع الشرور القادمة". إننا مليئون حتى التخمة بالمخاوف والتوجّسات، ولا نعرف إلى ما تُفضي كلّ مخاوفنا وتوجّساتنا. ولكن لا بدَّ من حدوث تغيّر هائل في سلوكنا النفسي. نحن بحاجة لفهم أعمق، ودراسة أكثر جدية، للطبيعة البشرية".
قدّم لنا التاريخ والفلسفة وعلم النفس العديد من التحذيرات
ولو توصّلنا إلى الاستنتاج بأنَّ ما نراه في غزّة هو الغياب التام للإنسانية، ورسمنا خطّاً يربط بين ما يحدث وما حدث قبل ألفي سنة مع يسوع المسيح، الذي كان رمزاً للإنسانية ومقاومة الشر والإمبريالية (ويقظة الوعي والعقلانية لدى الإنسان)، والذي صُلِب مع ذلك، فسوف نتمكّن من القول: إننا نشهد في غزّة الصلب الثاني للإنسانية، من خلال عذابات وموت الشعب الفلسطيني.
لقد عبّر الشاعر والرسام البريطاني ويليم بليك عن شيء مشابه في قصيدة ثوريّة له بعنوان "آه لصوت كالرعد" من مجموعته الأولى "تخطيطات شعرية" (1769 - 1777)، حيث قال:
"آه، من يستطيع التحمّل؟ آه، من تسبّب بهذا؟
آه، من يجيب على عرش الله؟
الملوك والنبلاء هم من اقترفوا ذلك!
امتنعي يا سماء عن السماع، نوّابك هم من اقترفوا ذلك!".
إن الكفاح من أجل الحرية ليس كفاحاً لحرية الفلسطينيّين وحدهم، بل لحرية البشرية جمعاء، واستعادة الشعب الفلسطيني لبلاده هو الحل الوحيد، وبداية نهاية جميع الحروب الأخرى، وخطوة محتملة للسلام والرفاه للجنس البشري برمّته.
* كاتب من البلقان