الأدبُ محاكمةٌ عادلة.. كيف نوثّق مدوّنة الرعب السوري؟

24 ديسمبر 2024
قصاصات على حائط في سجن صيدنايا بدمشق، 10 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- كشفت سجون الأسد عن فظائع لا إنسانية، مما يستدعي توثيق الحقائق بدقة لضمان محاسبة المجرمين بشكل قانوني وفعّال، بعيدًا عن المبالغات.
- التوثيق العلمي المنهجي، بمشاركة الجامعات وطلبة القانون والطب والإحصاء، ضروري لتأريخ عذابات المعتقلين، ويجب أن يترافق مع جهود فنية وأدبية لتضميد الجراح النفسية.
- الأدب والفن يلعبان دورًا حيويًا في التعبير عن آلام المعتقلين، مما يساهم في بناء ذاكرة جماعية وضمير إنساني عالمي يتذكر هذه الفظائع.

انفتحت سجون الأسد الفظيعة، وانكسرت أقفالُها بعد طول انغلاق. ومع انفتاحها اكتشف العالم - في ذهول مشبوه - ما كان يعرفه سابقاً من فظائع لا إنسانية وأساليب وحشية في الاعتقال والتعذيب والقتل، تجاوزت ما مارسه أبشع الطغاة في القرون الوسطى. سجون وزنزانات منفردة قطعت كلّ صلة لها بالإنسانية، صارت مقصد الآلاف بحثاً عن أمل، ولو ضعيف، في العثور على قريب غُيّبت أخباره طيلة عقود لا لغرض سوى التشفّي وإرهاب شعب أعزل تهديداً لكلّ من يجرؤ على الاحتجاج، ناهيك عن العصيان والتمرّد.

ومع ذلك، فإن اختلاق قصص تعذيب خيالية أو مبالغٍ فيها لا يخدم مبدأ المحاسبة القانونية لهؤلاء المجرمين، من مديري سجون وضبّاط لم تحرّكهم سوى الضغينة. لذلك، لا بدّ من الاكتفاء بما حصل فعلاً، وهو قاطع وكافٍ ألف مرّة في بيان الفظاعة، من أجل توثيقه، حتى تُجرى المحاسبة بناءً عليه. أمّا اختلاق القصص أو الحديث عن آلات تعذيب وهمية (كما شاع عن آلة تمتصّ سوائل الجسد حتى يُفرغ بالكامل، والتي تبيّن أنها آلة لكبس الخشب)، فقد ينقلب تعميةً على الجرائم الحقيقية للنظام ومن لا يزالون يهوّنون من شأن ظروف الاعتقال ويعتبرونها طبيعية.

وعليه، لا بدّ من عملٍ علمي منهجي تشارك فيه الجامعات وطلبة كلّيات القانون والطبّ وحتى الإحصاء، لتوثيق مدوّنة كاملة لأرشيف هذا الرعب، يدعم ما بدأه مشروع "الذاكرة السورية" التي أطلقه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2019، خصوصاً ما اندرج ضمن خانة "الشهادات".

حاجة إلى أدب سجون جديد يتجاوز النزعات التسويقية

هذا الجهد يمثّل طبقة أُولى كي تلتئم الجراح، فمن دونها تتعرّض سرديات المتظلّمين إلى تشكيك تظهر ملامحه منذ هذه الأيام بإيعاز من أنظمة كانت مهادنة لنظام الأسد، وما أسهل تلك الاتهامات بفبركة الصور وتضخيم الأخبار، في حين أنّ هذه القصص، مهما بلغت تفاصيلها من القسوة، هي نزر يسير في خضمّ الأعمال البربرية التي مارسها السجّانون ومديروهم، في سادية مَرَضية لا تبرير لها بأيّ منطق، لا زجري ولا استبدادي. لقد تجاوزت كلّ مَدَيات الفهم ومدارات الخيال. 

لكن لا يوكل طيّ صفحة الفظائع إلى التوثيق وحده، فالسوريون يعيشون اليوم بجراح غائرة في نفوسهم بعد عقود من الطغيان والعنف والتهجير، وكما يعتمد العلاج النفسي للأشخاص على أدوات الحكي والإنصات والتوسّل بالموسيقى، فإن الشعوب تحتاج لعلاج شبيه، وإنّ الجهة المخوّلة بالتعامل مع هذه الفضاءات هي المجتمع الإبداعي؛ ففنون السرد التي تتجلّى في الرواية والسينما والمسرح أكثر الأدوات قدرة على مداواة الجراح السورية، ونحن نعرف قدرة هذا البلد على إنجاب المبدعين، منهم حكّاؤون بارزون مثل حيدر حيدر وحنا مينة في الرواية، وزكريا تامر في القصّة، وممدوح عدوان في الكتابة الدرامية، وسعد الله ونّوس في المسرح، هذا إذا اقتصرنا على العلامات المضيئة في القرن العشرين. ولنا أن نشير إلى حكّائين مبدعين لم تجفّ محبرتهم بعد مثل ممدوح عزّام وفوّاز حداد وسليم بركات وسمر يزبك، وعشرات من الكتّاب الشبان. فإلى هؤلاء يُعهد تضميد الجرح السوري الغائر.

بهذا المعنى، فإن التوثيق ليس عملاً بحثياً صرفاً، هو في أحد وجوهه "تأريخ للروح" بعبارة الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، وكانت قد رصدت سنوات القمع البوليسي التي عاشت على وقعها شعوب وهي بقضبة الدولة السوفييتية في سنوات غطرستها الأخيرة قبل تفكّكها. بعبارة أُخرى لا يمكن الإمساك بفظاعات الأزمنة القمعية إلّا بيدين اثنتين: القانون بما يحتاجه من إثباتات وقرائن، والفنّ بما يوفّره من تخييل وقدرة على بناء الصورة بمفهومها الذهني. بذلك نضمن تخليداً لعذابات الآلاف والمحاسبة القضائية العاجلة، من دون انتقام، لمن انتهكوا كلّ القوانين والأعراف والأخلاق. 

من جهة أُخرى، على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتحديداً تخصّصات مثل علم النفس وعلم الإجرام والعلوم السياسية، أن تعكف على دراسة هذه الظواهر حتى "تفهم" المحرّكات الدفينة التي قادت إلى هذا السلوك المَرَضي وكيف ينشأ الاستبداد السياسي: هل هو تراكم تاريخي أم مجرّد نزوة فردية أو فئوية؟ أم نرجسية باتولوجية خضعت لها نفوسُ الطغاة فأذاقوا ضحاياهم الأمرّين؟ يجب أن تتكاثف المنظورات لاستكشاف أسباب هذا الشرّ المطلق الذي يجمد القلم أمام أهواله.

داخل هذه الممارسات يكمن الكثير من الحقائق التي لا يسبر أغوارها إلّا المبدعون المتمرّسون، فبعد شهادات الضحايا تأتي شهادات الشخصيات الأدبية، وهذه لا تركّب اعتباطاً بل يُفترض أن تختزن العشرات من الأنفس الحقيقية وتدمجها في بوتقة واحدة تنطق بشهادة تاريخية أدبية تُخلّد هذه المآسي، ولو أنّها لم تقع لكنّها الأكثر تعبيراً عمّا حدث. رواية تكون من الثقل الرمزي والإنساني بحيث تفرض تسجيلها كذاكرة جماعية، وذلك ما يفعله "الأدب الكبير" وحده، وقد تجلّى في مآسي شكسبير أو روايات تولستوي. يستحقّ أولئك المغيّبون المعذّبون نصوصاً فنّية تتعالى بآلامهم لتطالعها الأجيال القادمة وتستلهم منها العِبر. وليس كاليأس والعذاب مصدر إلهام ومنبعاً للأدب.

مسؤوليات أخلاقية وفنّية تُعهد اليوم إلى كتّاب سورية

غير أنّ هذه الدعوة للتعبير عن آلام المعتقلين في سجون الأسد ينبغي أن ترافقها دعوة أُخرى، بتوخّي الأدباء، شعراء وكتّاباً، الحساسية والحذر من النزعات التسويقية. وإلى ذلك نحتاج إلى "أدب سجون جديد"؛ فقد استُهلك هذا الفرع من بين أجناس الرواية في الثقافة العربية خصوصاً بعد منعطف "الربيع العربي"، ووقتها انفتحت سجون أنظمة أُخرى، وإن كانت أقلّ قسوة ممّا رأيناه في معتقلات الأسد، لكن تسرّع الكتّاب في تحويل شهادات إلى نصوص أدبية واستسهال الكتابة عن التجربة السجنية ذهب بكثير من عمق هذا النوع الأدبي، فخسر أهمّ ما يمكن أن يميّزه وهو صدقه الفنّي. 

كلّ ذلك من بين المسؤوليات الأخلاقية والفنّية التي تُعهد اليوم إلى كتّاب سورية. وفي عصر التواصل الرقمي الذي ربط أنحاء الأرض بعضها ببعض لم تعُد هذه الفظائع ملكاً للسوريّين وحدهم، بل أصبحت منذ الآن تراثاً للإنسانية قاطبة وقد جالت صور "صيدنايا" العالم في نشرات الأخبار وفي المواقع الإلكترونية فتَشارك سكّان المعمورة الكثير من خدوش الألم السوري.

يبقى أنّ الكاتب السوري وحده هو القادر على إعادة بناء الحكاية، كيف تشكّل وحش التعذيب قطعةً قطعةً مثل مسخ فرانكشتاين، وكيف تجمّعت معاناة الضحايا قطرةً قطرةً حتى أودت بالطاغية، وكيف نخرج من كلّ ذلك بمعنى أخير يوجز المأساة السورية في بضعة أعمال متقنة فنّياً قد تكون رواية أو مسلسلاً درامياً أو مسرحية. وهل من محاكمة عادلة أكثر مما يبقى أثراً لا يُمحى في الضمير الإنساني. 
 

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية
المساهمون