استيقظتُ صباحاً وفي نيَّتي التوقّف عن المكابرة والتوجّه إلى الطبيب النفسي، إذ إن لديّ ما أشتكي منه شكوى دائمة، حتى لكأنَّه صار شعوراً مسيطراً عليَّ، وهو الاحتقار الذي يسكنني من الداخل، ويحرّك وعيي بالأحداث والأشخاص، وكلّ شيء آخر. الاحتقار أطبقَ على العالم من حولي وفي داخلي.
فكّرتُ، إذاً، باللجوء إلى الطبيب، وفي داخلي أردتُ الاعتراض على جميع الأصدقاء الذين لجأوا إليَّ باعتبار أنَّي أعمل روائياً. أمرٌ يخوّلني -حسب اعتقادهم- أن أفهم النفس البشرية، خصوصاً أنَّ عالم الروايات التي ألَّفتها كان نفسياً. لكنني أكتب هنا كي أسجل اعتراضاً، إذ أقصى جهدي كان أن أُتيح للشخصية التي أكتبها التعبيرَ عن نفسها.
صحيح أنَّني مَن بنيتها. لكن بعد هذا البناء الأولي، فإن الشخصية هي التي تؤسّس عالمها النفسي. ما قمت به فقط هو أنني أتحتُ لها ذلك. لقد سخّرتني الكتابة لأقوم بهذا العمل. وأعرف في أعماقي أنَّني مجرَّد موظّف لدى الشخصيات التي أمنحها حياةً، وهذه المعرفة إحدى بواعث فصامي. إذ لستُ متأكداً إن كانت الكلمات تخرج منّي، أو أنَّها تأتي إليّ من الشخصيات.
دفع الاكتئاب حياتي في سياق تخيّليِّ مثاليٍّ لكاتب
هممتُ أنهض من السرير وفي داخلي تنمو رغبة في أن أتوقّف عن المكابرة وأتوجّه من فوري إلى الطبيب كي أنقذ نفسي. فداخلي أعتمَ من جرَّاء الاحتقار، وبدأتُ أفقدُ المعنى من جرَّاء أكوام الاحتقار التي تتجمّع داخلي. مع أنَّ تجربة سابقة لي مع الأطباء لم تكن تجربة مشجّعة في أثناء الاكتئاب. في النهاية، لقد أَلِفْتُ الاكتئاب. اعتدتهُ. وأعتقد أنَّي انتهيت منه بأن يصير سلوكاً عادياً.
الاكتئاب لم يعد يسبّب لي مشكلة. على العكس، بالنسبة إليّ، دفع حياتي في سياق تخيّلي، في سياق سردي. صحيح أنَّه مَنع عني العيش نفسه، لكن هذا مثالي في حياة الكاتب. كما أنّني أكتب هنا، لا لأفترض معاناةً مع الاكتئاب، وإنَّما أبني على تشخيصٍ طبيٍّ يعود لسنوات. كلامي يخرج عن تجربةٍ، كي لا أبدو مُتطفّلاً على أمراض الآخرين الذين يقاسون منها. أنا أعرف عمَّا أكتب. لقد جرَّبت الاكتئاب، وقاسيت منه، وانتهيت إلى أن أتقبَّله، وألّا أعدَّه مشكلة تستدعي الحلَّ.
لكن ما يلحُّ عليَّ هذه الأيام كي أتوجه إلى الطبيب، هو المبلغ الذي بلغه الاحتقار في داخلي، خاصة مع مزاعمي أنَّ مبعث هذا الاحتقار سياسي، وقد نشأ في البدء بسبب ما حدث في البلد الذي أعيش فيه، وقد توقفت منذ سنوات عن القول إنَّه بلدي، مع أنَّه البلد الوحيد الذي أعرفه، البلد الوحيد الذي عشتُ فيه طوال حياتي. لكنني أمنع نفسي عن استخدام ضمير الملكية في ما يخص بلداً من المفترض أنَّه بلدي. وأظن أن سبب ذلك هو الاحتقار الذي يملأ كلَّ خليَّة في جسدي. حتّى أنني أخال أنَّه صار احتقاراً مادياً يشغل حيّزاً من مادة جسدي، لا معنوياً أو في فضاء الأفكار والنوازع النفسية. وإذا اقتطع أحدٌ جزءاً من جسمي، فسيقع على عينة من الاحتقار الذي يشعل وجداني.
أُسوة بالعديد من الأصدقاء، سيقول لي الطبيب اكتب تجربتك مع الاحتقار. وسيكون بوسعه أن يتخطّى مأزق أنَّني أساساً أعمل كاتباً. وليس بتلك السهولة أن أعرِّفَ نفسي ضمن حدودها وتجربتها فقط، أو أن أكتب تجربتي ككائنٍ مملوء بالاحتقار. لأنَّ الكاتب بعد سنوات الكتابة، لا يعود هو، ولا يعود بوسعه التعبير عن نفسه بوضوح ومباشرة، وإنَّما يستدعي شخصيات ويفترض لها حياة، هي أحد وجوه حياته التي ليس شرطاً أن يعيشها.
وأنا أمام الشاشة أنظر إلى المجازر القادمة من فلسطين من حرب المستشفيات هذه، عادَ الاحتقار، ليغلي في داخلي غلياناً حارقاً. عاد بهجمات أعنف، وأشعر بنوباته مشوبة بالعجز. أعرفُ المجازر، أعرفُ القتل، وأعرفُ، بموازاة ذلك، عقم الكتابة وحماقتها وعجزها وخلوها من المعنى. عدا عن معرفتي بأنَّ القضايا النبيلة أكثر ما تجذب إليها الأدعياء. معرفتي هذه تخنقني.
أفترض أنَّ الطبيب سيقترح عليَّ كتابة تجربتي مع الاحتقار
لقد قيَّض لي أن أعرف وشاةً ومخبرين ظهروا كأبطال، مع أنَّهم حطَّموا مستقبل عائلات بحالها. قيَّض لي أن أعرف مثقفين مخبرين، ومثقفين طائفيين، ومثقفين لصوصاً. كما قيّض لي أن أعيش أوقاتاً تساوى لديَّ فيها العيش مع الموت. بالطبع، هذا ليس اعتقاداً، وإنَّما تجربة. فأنا أكتبُ عمَّا أعرف. هذا ما تصنعه تجربة الحرب التي ملأتني أكواماً من الاحتقار الصرف للعالم الذي نحيا فيهِ، أنظمةً وأفراداً. احتقارٌ صرف حتَّى لأخال أنَّه احتقار عادي، أقل من أن يشغلني.
لا أعرف، لماذا أفترض أنَّ الطبيب سيقترح عليَّ كتابة تجربتي مع الاحتقار. ولا أعرف إن كان بوسعي كتابة تجربتي، لأنَّه احتقارٌ سياسي بالمبدأ، ربما يختلط باحتقارٍ وجودي قادني إليه ضعف صِلاتي الإيمانيّة، واعتقادي أنَّنا سننتهي إلى العدم. أجسادنا ستكون سماداً عضوياً لباقي الكائنات. وفي الصورة المثالية، سندخل دورة الطبيعة من جديد كغذاء للحشائش أو الأشجار.
أفكرُ كثيراً حيال الكتابة هذه الأيام، أفكر بها، بغياب جدواها، وأن أعرف أنَّها مجرد قشرة واهية لعجزي، وشعوري المحتَّم بعدم الانتماء، والشعور بالقِلَّة. والآن، لا أعرف إن كنتُ سأذهب إلى الطبيب. ولا أعرف إن كان بوسعي أن أجيز لألبرتو مورافيا اقتصار "الاحتقار" في روايته على الإحساس العاطفي بالتخلّي والخديعة الذي قد يحرّكه الشريك داخل الآخر.
الاحتقار النقي الذي يشملني، الاحتقار الذي يعصف بي، الاحتقار الذي يأكل أحشائي منذ أكثر من اثني عشر عاماً يتيحُ لي فقط أن أشيرُ إلى عبوري فوق الأرض، على أنَّه شعاع من الاحتقار الذي أضاء، وسرعان ما انطفأ في داخله. إنَّه احتقارٌ جوَّاني، بعد هذه السنوات من نموّه في داخلي، أرى أنَّه احتقارٌ يخصّني. لن أفكّر بالتخلّي عنه أمام الطبيب.
ربّما أفعل ذلك أمام الأوراق البيضاء. ربّما. لستُ متأكّداً حيال ذلك. لكن لا أذكر أنّي تخلّيت عن شيء يخصُّني إلّا في الكتابة. وهذا مأزق آخر. أي أن تغيب إرادتي فقط أمام أمرٍ لا يعود إليَّ البتَّة، ولا أعرف أين ينتهي. أقصدُ الكلمات، أقصد الكلمات التي تخطف الاحتقار مني الآن، ولا أعرف أين تقوده؟ وأيُّ المراعي يحرث الآن؟ وإلى لدن أيِّ ربٍّ تأخذهُ هذه الكلمات مني؟
* روائي من سورية