حين قرأتُ رواية الروائي الروسي فالنتين راسبوتين "الهارب" (صدرت الطبعة الأولى عن "دار التقدم"، موسكو، 1982) فوجئتُ تقريباً بالموضوع، وبالمحتوى الجديد الذي يعرِض فيه الروائي لمصير جندي هارب من الحرب. كان هدف راسبوتين من تلك الرواية أن يتعاطف مع الضعف البشري، أو مع خيارات الإنسان، كما هو شأنُه في معظم الروايات التي كتبها، لا تمجيد القوّة والحرب، أو البطل والمقاتل.
غير أنّ كاتبة المُقدّمة في الترجمة العربية أظهرت قسوة لا مثيل لها في إدانة خيار الجندي، وسمّته: السلوك المشين مرّة، والفظيع مرّة، كما قالت إنّه خارج على القانون، بل إنّ دار النشر زوّرت العنوان في الترجمة العربية، ووضعت لها اسم: "الهارب"؛ إمعاناً في تجريد الرواية وكاتبها وبطلها من أيّ احتمال مُمكن للتعاطف مع الحدث، بدلاً من عنوانها الذي منحها إياه الروائي وهو: "تذكّر ما دمتَ حيّاً" أو "عِشْ وتذكّر" كما تترجمه الكتب التي تتحدّث عن الأدب الروسي في العصر السوفييتي. ومن يقرأ الرواية سوف يلمس الفارق الهائل بين تعاطُف الروائي المشبَع بالروح الإنسانية، مع بطل الرواية، ومع زوجته، في لحظات ضعفهما ــ وهو مسوّغ كتابة الرواية أساساً بالنسبة لروائي من وزن فالنتين راسبوتين ــ وبين ناقد مجرّد من مثل هذا الإحساس لصالح تقديس الخطّ السياسي للحزب .
لم يكن السلام، أو المسالم، بطلاً في الأدب، وهذا غريب في الحقيقة على الآداب كلّها. وليس لدينا شخصية "عظيمة" في تاريخ الرواية في العالم تجسّد هذا المفهوم، وتجعل منه قضية حياتية. ولا يتعذّب البشر، أو يقلقون بشأن تثبيت السلام بقدر انشغالهم بإشعال الحروب. لماذا؟ هذا سؤال يترك فراغاً في حقل الأجوبة المُمكنة. وقد ظلّ السلام شعاراً، سواء لدى المعسكر الشرقي إبّان الحرب الباردة، أو فيما تلاها، أو لدى المعسكر الغربي، بينما استُهلكت الحرب كممارسة. وفي المعسكر الاشتراكي كانت آلة الدعاية تروّج لسلسلة من أدب الحرب أطلقت عليها اسم: "مقاتلون في سبيل وطنهم السوفييتي". كانت الروايات والأشعار تمجّد القوّة التي تسميها بطولة.
تذهب القوّة إلى الحياة، ويمضي الضعف البشري إلى الكتب
تُصوّر السينما الهوليودية وهي الأكثر انتشاراً وتأثيراً، انتصار المقاتل القوي أيضاً، تختفي بلاد بأسرها وراء بطل أميركي اسمه "رامبو" مثلاً، حيث تضع هوليوود هذا البطل الذي لا يُقهر في مواقف تتطلّب نجدته التي تأتي سريعة وحاسمة لتسجّل انتصاره المحتوم. وبفضل الإخراج المُتقن، والحبكة المشوّقة، يجد المتفرّج نفسه وقد أضحى متعاطفاً مع رامبو الأميركي المحارِب "الشّجاع صاحب القيم"، ضدّ المُقاتل الفيتنامي الذي تُظهره السينما مجرّداً من المشاعر الإنسانية، بينما هو يدافع عن بلاده.
وربّما كان هذا هو الغرض من هذا الإنتاج الضخم أساساً: استقبالُ فكرة القوّة، وتبنّيها من قبل الثقافات المغلوبة، بحيث تبدو كأنّما هي من طبيعتها. لا يتحدّث الناس عن الضحايا حين يذكرون الحروب، أو حين يتذكّرونها، ولا يأتون على ذكر التدمير والخراب، بل يتحدّثون عن البطولة، تغلب قصص القوّة قصص التعاطُف.
تذهب القوّة إلى الحياة، ويمضي الضعف البشري إلى الكتب.
روائي من سورية