إيريك كالدروود: استعارة "الفردوس المفقود" وتجلّياتها

07 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يلجأ الأدباء والفنانون العرب إلى الأندلس كرمز ثقافي متخيل يعبر عن الأمل والحنين، متجاوزين السياقات التاريخية لصالح لحظة جمالية توحدهم مع ماضٍ رومانسي.
- يبرز كتاب إيريك كالدروود "على الأرض أو في القصائد" دور الأمازيغ في تاريخ الأندلس وتأثير التوترات الإثنية على المجتمع، ويستعرض كيف أصبحت الأندلس رمزًا ثقافيًا متعدد الدلالات.
- يتألف الكتاب من خمسة فصول تسلط الضوء على الأندلس في الأدب والفكر العربي المعاصر، وتوظيفها كرمز للأمل والوحدة الثقافية وتجربة المنفى.

كان الروائيّون والشعراء والفنّانون والموسيقيون العرب في حاجة ماسّة إلى فردوس مُتخيّل، أو غابر، كي يستعيدوه ويتغنّوا به، يُنسيهم خريطة "سايكس بيكو"، وما يحدث عليها من حروب وتصدّعات سياسية واجتماعية ودينية، ويعودوا إلى ضوئه كي يهديهم في ظلمة الحاضر. وكانت لديهم حاجة ماسّة إلى نسج الأساطير حوله لشحن أحلامهم وآمالهم وللتعبير عن خيباتهم، حتى لو تم إغفال السياقات التاريخية والتفاصيل الدقيقة، والتضحية بها لصالح لحظة جمالية تُوحّد قارئهم، أو المستمع إليهم، مع ماض رومانسي يوسّع فسحة الأمل، في عالم عربي مضطرب وتشتعل جغرافيته بالحروب.

لدراسة هذا الموضوع، وتشعّباته المتجاوِزة للحدود اللغوية والثقافية، صدر كتاب ضخم، يقع في 340 صفحة، عن "منشورات جامعة هارفارد" للباحث والأكاديمي الأميركي إيريك كالدروود، بعنوان "على الأرض أو في القصائد: الحيوات الكثيرة للأندلس"، يُحلّل الطُّرق العديدة التي استُلهمت واستعيدت بها الأندلس على أنها استعارة في الأدب والموسيقى والفكر والسينما، ولا سيما في ما يتعلّق بقضايا الهوية الوطنية والذاكرة والحنين. 

ينطلق الكتاب من أطروحة أساسية هي أنّ الأندلس صارت رمزاً ثقافياً متعدّد الدلالات في الحاضر، ما منح المفكّرين والفنّانين العرب فرصة للتعامل مع قضايا التراث الثقافي والحداثة والخسارات المتراكمة. يُشير الكاتب إلى نقطة مهمّة وهي أن تراث الأندلس صنعتْهُ جماعاتٌ كثيرة لكن هذه الجماعات لا يعترف بعضها بدور بعض أحياناً في مسائل تتعلّق بالماضي أو الحاضر. من ثم إن الأندلس يُمكن أن تولّد صلات بين جماعات مختلفة، لكنها يُمكن أن تخدم أيضاً في ترسيم الحدود فيما بينها. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن الحياة الثقافية اللاحقة للأندلس تتشابك بعُمق مع تاريخ الاستعمار.

تتشابك الحياة الثقافية اللاحقة للأندلس مع تأثيرات الاستعمار

ويُستشَفّ من الكتاب أنّ هناك مسألة مُغفَلة وهي أن الأمازيغ، سكان شمال أفريقيا، كانوا لاعبين رئيسيين في قصة الأندلس من البداية. فالجيش الذي قاده طارق بن زياد في غزوه لشبه الجزيرة الإيبيرية عام 711م كان مُعظم جنوده من أمازيغ شمال أفريقيا الذين كانوا روّاداً في شبكة من التبادلات التي ربطت الأندلس وشمال أفريقيا لقرون كثيرة. ورغم الإسهامات المهمّة للأمازيغ في الأندلس لكن، وبسبب التوترات الإثنية بينهم وبين العرب، والتي كانت مشكلة عامة في المجتمع الأندلسي، خاصة أثناء حُكم الأمويين (711 - 1031م)، قامت النُّخب العربية آنذاك بتأكيد تفوّقها الثقافي عليهم.

لا يُقدّم الكاتب كما يقول قصة كاملة ومُفصّلة حول كيف بنت النُّخب الأندلسية هوياتها الإثنية والثقافية عن طريق ربط نفسها بالمشرق وإبعاد نفسها عن المغرب، بل يشرح كيف أن الاحتفاء بعروبة الأندلس ارتبط بتاريخ طويل يمتدّ من القرن الثامن وإلى الوقت الحاضر. يتناول المؤلّف موضوع "الأندلس" في الأدب والفكر العربي المعاصر، ويُركّز على الطريقة التي تم بها استحضار الأندلس مفهوماً ثقافياً وتاريخياً من قبل كتّاب وشعراء وفنّانين عرب في العصر الحديث. ويخلص إلى أن الأندلس ليست مجرد مرحلة أو فترة تاريخية تنتمي إلى الماضي، بل رمز قويّ يحمل دلالات متعدّدة.

فالأندلس وُظِّفت في الأدب والفنّ رمزاً للأمل في الوحدة الثقافية، وإشارةً إلى المأساة التاريخية التي تعرَّض لها العالم العربي، خصوصاً في ظل الاستعمار والنزاعات. ذلك أن الأندلس، كما يقول كالدروود، تم تخيّلها وإعادة تأويلها من قبل أجيال مختلفة من الكتّاب والشعراء والموسيقيين العرب بحسب سياقاتهم الاجتماعية والسياسية. رأى محمود درويش، على سبيل المثال، الأندلس فردوساً مفقوداً، وتجاوزت كونها واقعاً تاريخياً، وصارت رمزاً لتجربة المنفى الفلسطينية والحنين إلى الوطن. فالأندلس ليست مكاناً مادياً، بل ذاكرة ثقافية، وهي أيضاً رمز ماض لا يُستعاد، واستعارةٌ تعبّر عن تاريخ مفقود، وثقافة مفقودة، وأحلام موؤودة. أما في أغاني فيروز فالأندلس أكثر تجريداً ورمزية، وتثير هذه المطربة العظيمة بصوتها العذب حنيناً رومانسياً إلى الأندلس باعتبارها عالماً جميلاً مفقوداً، وتجعلنا نحنُّ إليه على أنه فسحة متخيّلة.

يعتمد مقاربات مختلفة تُراوح بين النقد التاريخي والأدبي

يتألّف الكتاب من خمسة فصول، يتناول كلّ منها موضوعاً يُوسِّع التحليل والنقاش ويلقي الضوء على دلالات الأندلس المستعادة لدى كتّاب وشعراء ومغنّين وموسيقيّين وسينمائيين، متعقّباً الفكرة في سياقاتها المتعدّدة المرتبطة بقوميات أُخرى داخل الثقافة العربية، ويبيّن كيف يتقاطع ميراث الأندلس مع المجادلات حول الهويات الإثنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويُشير إلى أنه منذ الحقبة القروسطية وحتى اليوم عبّر الكتّاب والمفكّرون العرب عن الأندلس باعتبارها ظاهرةً عربيةً وليست إسلامية.

يرصد الفصل الأول، الذي جاء بعنوان "الأندلس العربية"، المضامين السياسية لهذه الفكرة وتاريخها من القرن التاسع عشر إلى الوقت الحالي. أما الفصل الثاني، الذي جاء بعنوان "بربر الأندلس"، فيدرس الجهود التي بذلها كتّابٌ وباحثون ومخرجون سينمائيون من شمال أفريقيا لإلقاء الضوء على الإسهامات التي قام بها البربر والشعوب المحلّية لشمال أفريقيا في الأندلس. في الفصل الثالث الذي جاء بعنوان "الأندلس النسوية" ينتقل الكاتب من الهويات الإثنية إلى الهويات الجندرية. ذلك أن موضوع الأندلس أُثير منذ أواخر القرن التاسع عشر في النتاج الأدبي والفني والفكري للنسويات المسلمات والعرب، للتعبير عن نسوية إسلامية مستقلّة عن الحركة النسوية في أوروبا والولايات المتحدة. يتعقّب الفصل الثالث البزوغ الحديث للأندلس النسوية مسلّطاً الضوء على عمل كتّاب وفنّانين تخيّلوا الأندلس مكاناً للحرّية الاستثنائية والإبداع في ما يخص النساء العربيات والمُسلمات، ويدرس كيف تم تناوُل هذه الفكرة في أعمال الروائية المصرية رضوى عاشور.

حمل الفصل الرابع عنوان "الأندلس الفلسطينية"، وحلّل المعاني المختلفة للأندلس في النتاج الثقافي الفلسطيني. ذلك أن الأندلس كانت منذ بداية القرن العشرين نقطة مرجعية للكتّاب الفلسطينيّين الذين عادوا إليها كي يتأمّلوا محنة وطنهم السياسية، وكي يشجبوا الاحتلال والمحو الثقافي، ويدعوا إلى المقاومة وتخيّل مستقبل فلسطين، هذا المستقبل الذي يدعوه الشاعر الفلسطيني محمود درويش "أندلس الممكن". الفصل الخامس "الأندلس المتناغمة"، يُناقش موضوع التعايش، ويستقصي كيف أن فنانين من مشارب وخلفيات ثقافية مختلفة استخدموا الموسيقا كي يؤدّوا ويتخيّلوا وينخرطوا في إرث الأندلس. وفي خاتمة الكتاب يعود الكاتب إلى ذكرى قرطبة الإسلامية من خلال قصة بناء مسجدين، واحد في قرطبة والآخر في البلدة التي يعيش فيها، في إيلينوي الوسطى.

يقرأ كالدروود الأندلس في تجلّيها الثقافي والفنّي المتعدّد والمتنوّع، ويربط اللحظة الحاضرة للأداء الشعري والموسيقي والسينمائي بلحظة في الماضي تشحنها، مبيّناً كيف أن مسحة أُسطورية أُضفيت على الأندلس موّهت بعض تناقضاتها. يدرس الطُّرق التي تم تخيُّل الأندلس بها، ويوظّف مقاربات منهجية مختلفة تتسلسل من النقد التاريخي والأدبي إلى الاستجابات النقدية لمصادر فنّية كالأفلام والأعمال التلفزيونية والموسيقية ما ساعده على مقاربة خطابات الماضي وتردُّداتها العابرة للثقافات. يفكّك الهويات المتمركزة على ذاتها في نظرتها إلى الآخر، والتي تُلمّع نفسها فيما تُقصي الآخر، وتُغْفل دوره، في نوع من إعادة إنتاج التمركز على الذات، التي تحتاج إلى تفكيك متواصل ليس في الغرب فحسب، بل أيضاً في العالم الذي يقع خارج خريطته.

 

* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون