لا تتوقّف الحياة، بما تأتي به من أحداث ومواقف، عن تهديم جانب من جوانب كان المرء قد صنعها في حياته الشخصيّة، ومن زاوية أُخرى لا تتوقّف عن بناء جانبٍ كان قد تهدّم في مرحلة من المراحل. فالمسألة إذاً، بناء وهدم. وهما عمليتان مستمرّتان ودائمتان وتحدثان بموازاة بعضهما.
في الكتابة أيضاً الأمر مشابه. مع الإشارة إلى أنّ الكاتب يقدّم حكاياتٍ منتهية، وفي أفضل الأحوال حكايات تبحث عن بداية لدى المتلقّي، لكنها بذاتها حكاياتٌ منتهية، حتّى تلك التي تنتهي بنهاياتٍ مفتوحة. فهي تجري أساساً في نصٍّ مكتوب، أغلق أبوابه، ولا تعدو النهاية المفتوحة عن كونها نافذة مواربة. النصّ المكتوب خُلق محدوداً، خصوصاً إذا ما عَقد أحدهم مقارنةً مع الحياة باتّساعها، فالكاتب ينهل من دروس الحياة حتّى على صعيد الأسلوب الذي يعرض بواسطته الحكاية المكتوبة. ليس على صعيد الحكاية أو الموضوعات والشخصيات فقط، تمدّ حياة الكاتب بالشكل الذي سيكتب بهِ أيضاً، فهو يكتب كي يحاكي جانباً منها أو كي يعالجه معالجة مختلفة تحملُ بشاراتٍ أو إنذارات.
قد يكتب أحدهم كي يدافع عن مفاهيم انتهت، وقد كتب ثيربانتس (1547 - 1616) روايته "دون كيخوتي" كي يُحيي قيم الفروسيّة. صحيح أنّها رواية ساخرة، لكنها تتحدّث عن قيم الفرسان الجوّالين الذين يدخلون المعارك نصرةً للآخرين، وهذه ظاهرة كانت تنازع في أوروبا عندما كتب ثيربانتس روايته. وكأنّما جاءت الكتابة كي تحيي شيئاً قتلتهُ الحياة، وبدا أنّ ثيربانتس التقط ظاهرة تنازع، ومن ثمّ بنى روايته على مفارقاتٍ ساخرة. وهو بالتالي، بصورة ما، حاول أن يبني ما هدمته الحياة.
قد يشهد القرن الحالي انتصاراً للآلة على الأدب نفسه
لكن في روايات أُخرى، قد تحمل الكتابة تصوّراً معاكساً، فأحياناً يبدأ الكُتّاب بهدم ما هَمّت الحياة ببنائه، كما في الروايات التي تُنذر بطبيعة تغيّرات يقودها التطوّر. على سبيل المثال، حذّرت رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي (1797 - 1851) من سلطة العلم، وحوّل فرانس كافكا (1883 - 1924) بطل روايته "المسخ" إلى حشرة كي ينبّه البشر بخصوص إنسانيتهم إبّان الثورة الصناعيّة.
هكذا يبدو أنّ الأدب لا يتعلّم من الحياة وحسب، وإنّما تصنعه الحياة عبر الصراع معها. غير أنّ الكُتّاب يدخلون معارك محسومة لصالح الحياة، فهم يصارعونها بأدوات أعطتهم إياها. في منظور الأدب، شهد القرن الماضي انتصار الآلة على الإنسان. ويمكن الإنسان في القرن الحالي أن يشهد انتصار الآلة على الأدب نفسه من طريق تقنيات الذكاء الصناعي. وفي الأشهر الأخيرة، فازت لوحة رسمها الذكاء الصناعي في معرض بأميركا، وسُجّلت رواية جديدة كتبها الذكاء الصناعي في أميركا أيضاً.
أُسوةً بحبكة قديمة في الأدب مَثّلتها عودة هرقل من العالم السفلي ورؤيته تغيّر حال مدينته في مسرحية يوربيديس (480 - 406 قبل الميلاد) "هرقل مجنوناً"، أخال لو افترضنا عودة كاتب عُنيَ بالفروسيّة في القرن السادس عشر، مثل ثيربانتس، إلى القرن الواحد والعشرين، وهو منذ القرون البعيدة اشتكى غياب الفروسيّة، لا كفضيلة اجتماعية، وإنّما كفضيلة إنسانيّة؛ لَسَوفَ يُصاب بالهلع وهو يرى الفروسيّة صارت نقيضَ ما تشيرُ إليه، فكثيرٌ من الحروب تُخاض بعد تسويقها دعائيّاً على أنّها دفاعٌ عن شعبٍ ضعيف أو عن قيم نبيلة، كما حصل في حرب أميركا على العراق وفي حرب روسيا على أوكرانيا.
ثيربانتس بالطبع من سلالة كُتّاب نادرين لديهم مهاراتهم في مجاراة منطق الحياة. صحيح أنّ روايته اتخذت الفروسية موضوعاً، لكنهُ أسوةً بالحياة استخدم السخرية من الفروسيّة أسلوباً. وتظهر عبقرية ثيربانتس في بناء رواية قادرة على النمو مع نمو الحياة والبناء على مفارقاتها.
* روائي من سورية