في فيلم "موليير"، الذي وضعه المخرج لوران تيرار عام 2007، يظهر لنا المسرحي الفرنسي الأشهر (أدّى الدور الممثّل رومان دوريس) في صورةٍ لَعوبة، تمزج الجدّ بهزلٍ وسخرية لاذعَيْن، وذلك رغم المعاناة والعوز الكبيرَيْن اللذين كانا يطبعان حياته في الفترة التي يستعرضها الشريط، أي فترة شبابه وبداياته المسرحية، قبل معرفته النجاح الجماهيري والنجومية.
صورةٌ تبدو في الوقت نفسه وفيةً، من ناحية، لشخص موليير كما يمكن لنا تخيُّلُه انطلاقاً من كتاباته المسرحية الساخرة والناقدة؛ ومتناقضةً، من ناحية أُخرى، مع حضوره "الرسميّ" كمثالٍ أوّل ربما للثقافة الفرنسية وللغةِ البلد، التي لطالما عُرفت بـ"لُغة موليير". إذ ما الذي يجمع بين الكاتب والمخرج والممثّل المسرحي الشعبي، الذي لم تسلم السُّلطات والثقافة السائدة من نقده، وبين الشخصية الوطنية الثقافية التي تُقَدَّم لنا، في بعض اللوحات التي تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في أقصى الجدّية، حيث نرى موليير يشارك الملوك والأمراء ولائمهم ونقاشات بلاطهم؟
قد تبقى الإجابة عن سؤالٍ كهذا معلّقةً، خصوصاً في ظِلّ غياب قسمٍ كبير من المعطيات الموضوعية حول سيرة المسرحي الفرنسي الذي لم يترك وراءه - كما جرت العادة مع كثيرٍ من أمثاله من الكتّاب الفرنسيين البارزين - أرشيفاً كاملاً من الرسائل واليوميات الذي يمكن من خلاله الوقوف على بورتريه واقعيّ له. وهو تناقضٌ نقف عليه هذه الأيام بصورةٍ أوضح، حيث يعود صاحب "البخيل" إلى الواجهة - التي لم يغب عنها يوماً ربما منذ قرون، على الأقل في الثقافة المسرحية - تزامناً مع مرور الذكرى المئوية الرابعة على ولادته (1622 - 1673). حدثٌ حوّل المشهد الثقافي والإعلامي الفرنسي، في الأيام الماضية، إلى فضاءٍ لما يمكن تسميته بـ"حمّى موليير"، مع عشراتٍ من العروض والمسرحية والمحاضرات والمعارض الفنية والأفلام الوثائقية والبرامج الإذاعية التي تعد بتحويل العام الجاري إلى "عام موليير". ولإعطاء مثالٍ واحدٍ فقط، فإن "الكوميديا الفرنسية"، التي تُعَدّ الهيئة الأبرز للمسرح في فرنسا لناحية العروض المقَدَّمة، قد برمجت، وحدها، عشرين عرضاً من أعمال موليير ستقدَّم طيلة العام الجاري.
عروضٌ تعود إلى نُسخ من مسرحياته مُنعت أو تعرّضت لمقصّ الرقيب
لكنّ ما يمكن ملاحظته في هذه الاستعادات، وما قد يُحسَب لها، هو حذرها من الصورة الرسمية، القومية والمهادنة للسُّلطة، التي لطالما قُدِّم بها الكاتب الفرنسي، والتي لُقّنت لأجيال من الفرنسيين، بل وصُدِّرت أيضاً إلى خارج البلاد، إن كان من خلال الدبلوماسية الناعمة، أو من خلال المناهج الدراسية التي حملها معه الاستعمار الفرنسي إلى البلدان التي احتلّها. هذا الحذر، وهذه الرغبة في العودة إلى "موليير حقيقي"، نقف عليهما، على سبيل المثال، في النسخة التي يقدّمها إيفو فان هوفه من مسرحية "تارتوف أو المنافق" هذه الأيام في "الكوميديا الفرنسية"، حيث شاء المسرحيّ البلجيكي - وهو أحد أبرز وجوه الفن الثالث اليوم في أوروبا - العودة إلى النصّ الأوّل الذي وقّعه موليير من المسرحية، والذي منعه ملك فرنسا حينها، لويس السادس عشر، من العرض في صيغته الأولى، فارضاً نسخةً معدّلةً وأقلَّ نقديةً من النصّ.
ولعلّ هذه الرغبة في تفكيك الأسطورة المولييرية تصل مداها في معرض "موليير: فبركةُ مجدٍ وطنيّ"، الذي يُقام حتى منتصف نيسان/ أبريل المقبل في صالة "ريشو" في فرساي، والذي شاء القائمون عليه تتبُّع مختلف صور التوظيف السياسي لشخصية موليير وأعماله في تاريخ فرنسا، من أجل تبيان المتخيَّل والمفبرك منها، لأهدافٍ سياسية، مع تسليط الضوء على الواقعيّ فيها. محاولةٌ تُضاف إلى سلسلة المحاولات الساعية إلى تكميل النواقص في السيرة الموضوعية لموليير، والتي قد تكون، هي الأخرى، مأخوذةً بأسئلة عصرنا ولغته وقيَمه السياسية والاجتماعية، بحيث لا تُقدّم موليير الحقيقي، بل صورةً أُخرى واستخداماً آخَر له...